اتجهت أنظار كثير من المسيحيين اللبنانيين والسوريين إلى مصر للهجرة إليها، وكانت كل سفينة تصل إلى الإسكندرية قادمة من موانئ سوريا أو بيروت تقل عددًا كبيرًا منهم.
كان سبب الهجرة هو المذابح الدينية التى بدأت منذ منتصف عام 1960 فى لبنان بين الدروز والموارنة أول الأمر، ثم اتسع نطاقها، واتخذت شكل مذابح بين المسلمين عامة والمسيحيين عامة. ووفقًا لكتاب «السخرة فى حفر قناة السويس» عن «مكتبة الأسرة - القاهرة»، للدكتور محمد عبدالعزيز الشناوى، فإن تهاون السلطات التركية فى سوريا فى قمع الحركة فى مهدها أدى إلى سقوط ضحايا كثيرين فى تلك المذابح، وإحراق عدد كبير من القرى، كان من بينها «دير القمر» و«زحلة» و«بيت مرى»، وهام الأهالى فى الجبال وهم فى حال شديدة من الذعر، ولجأ عدد كبير منهم إلى الإسكندرية وقبرص واليونان والقسطنطينية، وغيرها.
يضيف «الشناوى»: «امتدت تلك المذابح إلى دمشق بسبب سوء تصرف واليها، إذ إنه وضع المسلمين فى السلاسل، وأكرههم على كنس الشوارع لأنهم أهانوا المسيحيين، فأهاج ذلك العمل شعور المسلمين، وفى 9 يوليو 1860 هوجم منزل قنصل روسيا، ثم أعمل المتظاهرون النار فى منزل كبار التجار المسيحيين، كما أحرقوا الحى المسيحى فى المدينة، ولجأ كثير من المسيحيين إلى دار الأمير عبدالقادر الجزائرى الذى كان يقيم فى دمشق وقتها».
رأت بعض الدول الأوروبية فى تلك الاضطرابات فرصة للتدخل، ففرنسا تعطف على الموارنة، وتلقبهم بـ«فرنسيى لبنان»، وأراد نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا، إرسال حملة عسكرية إلى لبنان بحجة حماية المسيحيين هناك، ورغبة فى أن يكتسب عواطف رجال الدين الكاثوليك فى فرنسا، ولكن عارضت إنجلترا خشية أن تكون مقدمة لانتزاع ولاية الشام من الدولة العثمانية، وبسط النفوذ الفرنسى، وكانت سياسة إنجلترا تقوم فى ذلك الوقت على المحافظة على أملاك الإمبراطورية العثمانية لأن فى ذلك سلامة للممتلكات البريطانية فى الهند وغيرها، وفى هذا السياق ألقت روسيا بعض قطعها الحربية أمام سواحل الشام استعدادًا للتدخل، فرأت إنجلترا أن يكون التدخل فى هذا الموضوع طبقًا لأسس يتم الاتفاق عليها، فانعقد اجتماع فى باريس فى يوليو 1860 حضره سفراء أربع دول وقعت على معاهدة باريس «30 مارس 1856»، هى فرنسا وبريطانيا وتركيا وروسيا، وتغيبت سردينيا، وقصدت المعاهدة إنهاء حرب القرم بين روسيا وتركيا «الدولة العثمانية» بعد ثلاث سنوات من نشوبها.
ناقش الاجتماع تحديد الظروف، وطريقة تدخل أوروبا عسكريًا لإخماد الفتنة فى الشام، وأسفر عن التوقيع على برتوكول فى مثل هذا اليوم «5 أغسطس 1860»، يذكر منه «الشناوى» ثلاث مواد، هى:
أولًا: عرضت الدول على السلطان العثمانى مساعدتها لوضع حد للاضطرابات فى سوريا، وقد وافق السلطان على ذلك.
ثانيًا: ترسل قوة حربية إلى سوريا قوامها 12 ألف رجل، وقد وافق إمبراطور فرنسا على أن يرسل فورًا نصف هذه القوة، وأن تتقدم إلى أماكن الاضطرابات دون تأخير، وأن ترسل الدول فيما بعد- إذا تطلب الموقف ذلك- نصف القوة، على أن يتم الاتفاق عليها وقتئذ.
ثالثًا: حددت مدة وجود القوات الأوروبية فى سوريا بستة أشهر.
قبيل نزول القوات الفرنسية إلى ساحل سوريا طبقًا لاتفاق باريس، وكما يقول «الشناوى»: أرسلت تركيا قوات كبيرة إلى تلك الجهات، كما أوفدت فؤاد باشا الذى اتخذ تدابير صارمة جدًا لإرجاع الأمن إلى نصابه، فنفى بعض الأعيان من دمشق، وقتل 111 مسلمًا رميًا بالرصاص، وشنق 56، وسمح لجميع المسيحيين الذين دانوا بالإسلام كرهًا أن يرتدوا إلى دينهم، وكان عددهم يقرب من الخمسمائة، وأعطى أملاك المسلمين فى الحى التجارى فى دمشق كتعويض للمسيحيين الذين دمرت منازلهم.
نزلت القوات الفرنسية بيروت فى أغسطس 1860، وعسكرت فى جهات متعددة فى جبل لبنان، وماطلت فى الجلاء بعد انتهاء المهلة المحددة فى بروتوكول أغسطس 1860، وأخيرًا استقر الرأى على أن يتم جلاؤها فى 5 يونيو 1861.