جاءتنى دعوة كريمة من مكتب السفير عبد الرءووف الريدى رئيس، مجلس إدارة مكتبة مصر للمشاركة فى لقاء "محمد توفيق بين الرواية والدبلوماسية " والحقيقة أن تلك فكرة جيدة فى مكاشفة أفق مزاوجة الكاتب –خاصة الروائى – بين الكتابة وعمله الذى يمتهنه خاصة أننى عايشت حالة مثل تلك لكن بين الرواية والقانون الدولى.
ولعل الكتابة عن محمد توفيق تدرجنا – فى رأيى – إلى أهم رواياته التى لم يُحتفى بها كثيرا وهى رواية "ليلة فى حياة عبد التواب توتو " تلك الرواية التى –مع نصوص قلائل جدا – أرخت لجيل سحقه الحلم إبان دراسته الجامعية هو جيل السبعينيات، ذلك الجيل الثائر الذى أنجب أكثر مفكرى مصر وروائييها وثورييها (سلوى بكر وفتحى إمبابى فى الرواية وأحمد بهاء شعبان وسهام صبرى وأحمد رزة وأروى صالح فى السياسة على سبيل المثال لا الحصر) الذين آزرهم وحالفهم بشدة شعر أحمد فؤاد نجم المعبر عنه صوت الشيخ إمام عيسى.
فى رواية ليلة فى حياة عبد الفتاح توتو الفائضة بحب مصر – خاصة مصر الحلم التى نسجها الكاتب فى لا وعيه وتمناها فى الواقع لكنها صارت اثر بعد عين – بطالعنا بيت شعر شهير للمتنبى :
كم ذا بمصر من المضحكات. . ولكنه ضحك كالبكاء
وبيت الشعر هذا المكتوب فى القرن الرابع الهجرى لا يزال يجسد الحالة المصرية المعيشة ويُستشهد به كثيرا فى ظل مجتمع لا ينفك يتخلص من العشوائية المطلقة والسياسات المتخبطة التى أدت به إلى ما هو كائن –ليس فى زمن إصدار الرواية فحسب – حتى الآن. الحدث الأساسى الذى يطالعنا فى النص هو 6 أكتوبر 81 وبالطبع هو تاريخ رحيل الرئيس المؤمن السادات، ومن هذا الحدث الذى يمثل إجمالا يليه تفصيل. "أنور السادات الذى انتهى به الأمر تحت هرم من الكراسى بعد أن وقف يتفقد جيشه فى فخر واعتزاز مبتسما للعالم فى سخرية وغموض.. يتهكم من أولئك المغفلين الذين صدّقوا " (ص5) ومن ذاك الحادث ينتقل بنا الكاتب محمد توفيق إلى عبد التواب مبروك (توتو ) الذى نظر إلى تجربة الحكم الساداتى وكيف قضاها ورفاقه فى الجامعة – خاصة أنهم تعلموا سنوات دراستهم الأولى فى زمن الحلم الناصرى الذى انتهى بكابوس 67 ، لكن حلم العدالة الاجتماعية والاشتراكية لم يفارق ذلك الجيل بعد أن رسخه زمن ناصر باقتدار. إن التحول الاجتماعى الذى قام به الرئيس المؤمن ( كما كان يُطلق أنور السادات على نفسه ) هو الذى مزق فكر ذلك الجيل من أقصى اليسار حتى أقصى اليمين ، من الاشتراكية التى قد تكون تحققت بعض الشىء فى زمن حكم عبد الناصر إلى الانفتاح والرأسمالية اللذين تبناهما السادات ربيب أمريكا وحليف إسرائيل باقتدار. فماذا فعل هذا الجيل وكيف سار ؟.
عبد التواب عبد القوى محمد مبروك الذى حمل اسمه كلعنة لا مفر منها قيدت حركته فى أيام الخنافس والروك حيث كان واعيا أشد الوعى بعدم تمشّى اسمه مع روح العصر ، لكن ما يقدمه الراوى عبر صفحات النص ما هو إلا تاريخ مصر ذاته منذ الثلاثينات وحتى نهاية السبعينيات وقد رصد الراوى وأتقن التحول الاجتماعى الكبير الذى حدث لمصر والمصريين ، " دائما تعود وتراود توتو تلك الفكرة التى أخذت تلح عليه منذ ألقى به القدر –دون استئذان أو لإيهامه – فى رحلته المجنونة عبر السنوات ، يقول لنفسه إن رحيل الباشا من عالمنا ضاعف من تأثيره على كل من حوله ، أن كلا منا لا يقاس بحجمه الحقيقى بقدر ما يقُّيم بالفراغ الذى يحتله ، وفكرة الفراغ هذه ومهزلة الكراسى الموسيقية تلك هما وجهان لنفس العملة ، عملة قبيحة مثيرة للضحك اسمها تاريخ مصر (ص245). إن الباشا هنا اسقاط مجازى على فاروق حفيد محمد على الذى خرج من مصر ابان ارغام مجلس قيادة 52 له على رحيله خارج البلاد ، وهو الباشا مصطفى عدلى جد عبد التواب (توتو ) لأمه الذى تمرد على حياة أبناء البشوات وعلى زيجته الأولى من صافى نار هانم ورحل إلى الريف حيث عزبته ثم الزواج من أمينة البنة الخولى أبو الغيط وبالتالى انتقال طبقة مُعدمة إلى مصاف حياة البشوات. فالتحول الاجتماعى لأسرة الباشا مصطفى هو نفس التحول الاجتماعى الذى حدث لمصر من الملكية الى الجمهورية ومن ثم حكم عبد الناصر الذى أطاح بمحمد نجيب وحكم مصر بإرادة فردية وبسلامة نيته مع من حوله فوصل إلى 67 فكان شان عبد الناصر فى الثالث والرابع من يونيو شأن المحكوم عليه بالإعدام بعد أن وضع عشماوى الحبل فو ق رقبته (ص 98) متى عرف عبد الناصر على وجه اليقين أنه وقع فى محكمة لن يفلت منها ولن تفلت أمته؟ ومتى اتخذ السادات قراره بطرد الروس والرقص على أنغام الروك أند رول مع كيسنجر؟ (ص44)
عبد الفتاح توتو هو الشخصية الأولى التى يسرد عنها الراوى التفاصيل التى تنبئ عن نهاية رحلتها الفكرية المتخمة فى أول الثمانينيات إبان رحيل الرئيس المؤمن. الشخصية الثانية صديقه ورفيق سنوات عمره عصام رشدى (شيبس) الذى ربطت بينهما سنوات من الود والذكريات والغيرة والمقارنات سنوات حاولا الفكاك من أسر قبضتها الفولاذية لكنهما لم يستطيعا، فجيل السبعينيات الذى هزمته سياسة الرئيس المؤمن قاوم سياسة الانفتاح التى أدت بالمجتمع الى الطبقة التى تموت من التخمة والقاعدة الشعبية العريضة التى تصارع الجوع كل لحظة، ذلك الجيل الذى ثار وتظاهر ولم تتح له فرصة لجنى أية ثمار بل ضاع منه كل شىء.. وذلك ما يصف به الراوى حال توتو وشيبس (وجيلهما) ، فقد مرا سويا بعدد لا حصر له من الأوهام، أوهام شخصية وأخرى سياسية وثالثة اجتماعية ورابعة عاطفية. "يدرك توتو أن حادث المنصة يحمل فى طياته أبعادا تاريخية هامة ستؤثر حتما فى كل مصرى أو على الأقل فهو إيذانا بنهاية عهد وبداية عصر جديد لكن عقله المشتت يعجز عن التحليل السياسى " (ص 22)
ثم يبدأ الراوى فى فعل الاسترجاع حيث تفاصيل حياة أسرة توتو وجدته وجده وبالطبع ذلك الجزء الموصوف بمتعة والمكتوب بحرفية الذى يرصد حياة مصر الملكية الجميلة وحياة الريف التى عاشها جده مصطفى باشا عدلى الذى قرر بعد زواجه من صافينار هانم أمر الله الوكيل وإنجابه منها ، أن يهجر كل ما كان يقيد حريته ومن ثم هجره لمجتمع متكبر لم ينتم إليه بقلبه يوما ما ليتزوج من أمينة الفلاحة الصغيرة البسيطة ابنة الخولى أبى الغيط ، وعلى الرغم من تلك الفكرة التقليدية المكررة من هروب الباشا إلى الزواج من الطبقات الدنيا أملا فى السعادة والتحقق الذى لا ينعم به فى عالم الأسموكن والفراك والارستقراطية ألا أن الكاتب محمد توفيق كتبه بطريقة شائقة تفوق تقليدية الحدث الموصوف. ثم وصف جدة توتو أمينة أبو الغيط أو الحاجة كما صاروا يطلقون عليها بمكرها وجبروتها وعزتها الذين أتيحوا لها إبان زواجها من الباشا مصطفى، أمينة التى يرتجف أمامها أعتى الرجال والتى اتخذها توتو مثلا أعلى منذ طفولته المبكرة.
إن يوليو 52 لم تكن لحظة فارقة فى تاريخ مصر وانتقال البلد من الحكم الملكى إلى الحكم الجمهورى (العسكرى ) فحسب ، بل كانت ايئانا باستفحال وتعزيز وفاعلية وجود الفلاحين فى مصر ، ومن ثم الهجرة من الريف الى المدينة الذى لا يزال مستفحلا حتى الآن ، كما ان الرواية تصف بالتفاصيل نوعية جديدة من النزوح تلك النوعية التى لم تكن نزوحا فحسب بقدر ما مثلت تطلع الريفى الى الحياة فى المدينة حيث الواقع الانظف والحياة الارقى ، بيومى أو (فان جوخ) رفيق توتو وشيبس فى الجامعة ابن المنصورة الذى اعتبر لحظة انطلاقه نحو القاهرة بمثابة ميلاده الحقيقى "طظ فى المنصورة واهل المنصورة ، أولاد الأفاعى كما أطلق على أهله، أهل القاع، لمامة اللمامة"، بعدها اخذ عهدا على نفسه إلا يطأ قدما فى المنصورة بعد اليوم.
فى ظل الشخصيات التى يموج بها النص نجد عصام رشدى (شيبس) وهو الشخصية الوحيدة –تقريبا- المتسقة مع نفسها الذى تحرر من تعقيدات العادات والتقاليد ووضع قدمه على اعتاب التحرر من أفكار والديه واجداده ، والذى قرر التخلى عن معتقدات رسخت فى أذهان مئات الأجيال من أسلافه والتى امتزجت عبر العصور بالاوهام والعقد لتشكل ما يطلق عليه جذورنا (ص286).
توتو وشيبس وفان جوخ وزميلهم المُخيخ عبقرى كلية الهندسة "الوحيد الذى لم يتأثر بالتيار المادى الذى اجتاح البلاد، بيد أنه –رغم عبقريته- لم يستوعب أى من التحولات الاجتماعية التى طرأت فى نفوس أصحابه (ص451) كلهم أبناء جيل السبعينيات الذى اصطدم بإرادة السادات فى الحكم الذاتى لمصر دون أدنى مشاركة اجتماعية وقد التحف الرئيس المؤمن بالامن المركزى الذى ظل يطارد الطلاب داخل وخارج الجامعة وهم يهتفون (أنور أنور يا سادات هى فين الحريات ) أو وهم يهتفون ضد وزير داخليته ممدوح سالم (لم كلابك يا ممدوح دم الشهدا مش حيروح ) أو الهتاف ضد سياسة عبد العزيز حجازى ومن ثم معاناة الفقراء من الغلاء (عبد العزيز حجازى يا حجازى بيه ، كيلو اللحمة بقى بجنيه ) (ص217) ومن السياسة العامة فى مصر ومن ثم عدم اعتبار الرئيس المؤمن للمثقفين ولا للشعب والتحافه بجوقته التى تُزيّن أفعاله ، وصف الراوى باقتدار احداث حرب 73 فى لغة تقريرية متقشفة تليق بالسرد كيف كانت بداية الحرب مشوشة فى ذهن الشعب الذى لم يدر الا بحدث غير واضح المعالم خاصة ان نهاية الحرب جاءت وسط سحابة كثيفة من الغموض ، الثغرة ، حصار الجيش الثالث ، مقالات هيكل ، حتى مصطلح محادثات الكيلو 101 ، اين يقع الكيلو 101؟ وكيف وصل اليهود الى هناك؟ استمر الشعور بالقلق الذى اسمته وسائل الاعلام الحكومية (روح اكتوبر ) (ص167)
أن امتداد النص منذ الثلاثينيات وحتى نهاية السبعينات أتاح للراوى استخدام عددا من التقنيات التى تدعم السرد فعلى سبيل السياسة النص يمثل ادانة ورصد حقيقى ناجع للرئيس المؤمن الذى استخدم القمع للخاصة والعامة وكل من لا يرضى عن سياساته التى ضخمت من احلام اليهود وجعلت المسيرات تسير فى قلب مصر ومنها ما كان على رأسها شاب ابيض رأسه كبير وعيناه مشتعلتين يُدعى حاييم وايزمان يصيح ومن خلفه : " يحيا بلفور. . تحيا اسرائيل. . من النيل الى الفرات أرض الميعاد. . تعيش الصهيونية الى أبد الآبدين " (437) ، ثم كانت ابرز سياسات الرئيس المؤمن الانفتاح الاقتصادى التى انتجت شخصيات مثل فوزى الحوت مكتسب الملايين ومعلم الفهلوة الذى يعلم غيره كيف يصنع الملايين (ص489) ، وايضا سياسة الرئيس المؤمن التى اذهبت العقول وأوجدت حلا لكل شئ " أيوجد من المشاكل ما لا يحل بقطعة حشيش؟ أو شعرتى أفيون؟ أو سهرة حلوة مع الناس الحلوة !!!! ( ص437) جميعها نتاج سياسة الرئيس المؤمن.. مش عام 80 ده عام الرخاء؟ (ص487)
لقد قدّم الكاتب محمد توفيق فى نص "ليلة فى حياة عبد التواب توت " تركيبة معقدة من تاريخ مصر ، فما قبل يوليو 52 حالة متفردة من الطبقية لكنها الطبقية المقبولة حيث البشوات بشوات بالفعل والباشا مصطفى عدلى زاوج بين حياة البشوات ومن الزواج من السيدة صافى نار أمر الله شريف الوكيل ، ثم الزواج من أمينة ابنة الخولى ابى الغيط الذى طمع فى ثروتها فكان حاميها حراميها بما يمثل إدانة كبيرة ورصد لطمع الفلاحين سواء من حكما مصر بعد ناصر أو أبو الغيط الذى حكم مال ابنته أمينة بعد رحيل الباشا ثم زوَّجها من ابو النجا مسلوب الارادة كى يتسنى له نهب مال ابنته.
وهناك نوع اخر من الطبقية بين ابناء أمينة نفسها فنازلى بنت الباشا مصطفى عدلى تحتقر نبيهة ابنة الفلاح ابو النجا على الرغم من ان امهما واحدة "هما يعنى عشان ابوهم باشا. . ولا عشان وارثين " (ص147 ).
أيضا ضمن التركيبة المترامية المعقدة التى تضم أحداثا وسنوات وشخصيات أكثرها واقعى تظهر صورة أخرى للمرأة الآنية المتحررة التى تختلف عن صافى نار ابنة البشوات وأمينة ابنة الفلاحين ممثلات لصورة المرأة المصرية فى الثلاثينات والأربعينيات قبل دخول الرعيل النسائى الاول للجامعة متمثلا فى سهير القلماوى ولطيفة الزيات وغيرهما ، لتظهر صورة المرأة او الفتاة المتعلمة ابنة الجامعة والتى استفاض توتو فى وصفها وكانها صارت جزءًا منه من دقة مراقبته لها وللتطورات التى اعتورتها مثلما اعتور المجتمع نفسه من تغير فايناس طه الشيوعية التى لم تدخل السجون والموظفة بعد تخرجها لدى هيئة المعونة الامريكية التى باتت تتغزل بنفس حماسها السابق فى مفاتن الاقتصاد الحُر ، وفضائل الرأسمالية والبورصة (ص495) والمرأة القبيحة التى اطلق عليها زملائها بالجامعة طائر الاشبيلج قبيحة القبيحات المتزوجة –فى زمن الانفتاح- من رجل اعمال ناجح "بعد أن صبغت شعرها اصفر وأجرت عمليات تجميل قبل ليلة الزفاف "(ص496). ثم المرأة التى صارت تلبس منطادا طويلا بحجة انه الايمان والدين الحقيقى بزعامة انه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. وكلهن وسياسة الانفتاح وارادة الفرد والثروات التى بدأ يمتلكها أصحاب الفهلوة (ابناء سياسة النهب الاقتصادى الحُر) فضلا عن اغرق العامة فى أفكار ظلامية بعد اهمال التعليم واحتقار الثقافة كلها تؤكد أن قراءة رواية "ليلة فى حياة عبد التواب توتو " للكاتب محمد توفيق تلخص عصراً مصرياً كاملاً سياسيا واجتماعيا وقد كُتبت بموهبة كاتب امتلك ادواته وعاش بعين الراصد لتلك الفترة التى تغنى عن قراءة الكثير من الكتب التى ربما تجامل أو تزيف التاريخ.