تغرقك روايات نجيب محفوظ بواقعيتها، فتغوص فى عبقرية المكان بجدارة باللغة، حتى تتكئ على الشاطى، تستمتع بما كتبه شيخ الحكائين خيرى شلبى عن المهمشين، وبين جيل وأجيال تظهر رواية خير الله الجبل لعلاء فرغلى، الصادرة عن دار العين، لتجمع بين عبق الزمان وعبقرية المكان، وتجسد حياة المهمشين من سكان العشوائيات.
جغرافية المكان فى الرواية سمة رئيسية للسرد، تجعلك تتشبث بأركانه، وكأنه المكان الأم دون النظر إلى حياة المدينة أو الريف، كأنك تعيش فى دولة متكاملة من المهمشين، سكان خير الله الجبل شخوص تعيش وتتعايش معهم عبر الكلمات، وكأنك تشاهد تفاصيل التفاصيل اليومية لحياة فئة مهمة من المجتمع المصرى، فتستنشق عبقرية المكان من أحجار الجبل ورمال الطرقات والعقارب والثعابين التى تسكن الشقوق، مرورا باسطبل عنتر "جبخانة محمد على" التى بناها لتكون مستودعا للأسلحة والذخيرة حتى تصل تل الطواحين الذى أقيم فى عصر الدولة الفاطمية كمخازن للغلال، إلى أن استخدمت حجارتها فى بناء بيوت السكان الجدد حتى أوصلوها إلى مبانى متطورة.
أما عن عبق الزمان فتجد الراوى متعدد الأزمنة فى الحكى للحدث الواحد، مستخدما نظرية التقديم والتأخير، كأحد فنون الكتابة، فالقفزات الزمنية الرشيقة تجعل القارئ يتلمس الأحداث، وكأنه من سكان المكان مشدوه الانتباه ممسكا بيد الراوى الذى يجبرة إلى الغوص فى قاع المجتمع العشوائى بعاداته وتقاليده وسلبياته وإيجابياته، إن وجدت، مرورا بالتحولات الاجتماعية إلى أن يكتسب النضج الاجتماعى فى آخر سطور الرواية، مستمتعا بسلاسة السرد وتعدد الأصوات والتداخلات الحوارية.
تقرأ وكأنك تعيش مع الأشخاص الذين يلفظهم رحم المدينة فيهرولون إلى المناطق العشوائية خشية من الظروف القاسية، منهم أناس متصالحون مع المدينة لا ينقصهم السكن وإنما لقمة العيش أو المشاركة فى تأسيس منطقة بكر حتى وإن كانت عشوائية كباب من أبواب زيادة الرزق، ومنهم من يريد أن يسكن فى القاهرة دون التكلفة الباهظة، كما فعل صف الضابط المتقاعد.
تدور الأحداث حول شخصية محورية وإن كانت الرواية بها العديد من الأبطال إلا أن "صالحين" تستحق دور البطولة بجدارة أخذت بأخواتها كقطة تحمل أبناءها بين فكيها خشية من الموت السحيق إلى جبل خير الله، بعد أن تكوم منزلهم المتهالك وسقطت أمها شهيدة الفقر تحت أنقاضه، تحتضن "صالحين" أخواتها فتكتشف خبايا المكان، وتتكون ملامحه الجغرافية من حوارى وشوارع شاهدة على عصر حديث من البلطجة فى التعمير، حيث يقوم "المعلم الضبع" ببيع مالا يملكه من أرضى، فهو يستقبل المطاردين والخارجين على القانون والبلطجية، إضافة على الفقراء المعدومين اللذين يبحثون عن حياة شبه آدمية فى بوتقة عشوائية سرعان ما تحولت إلى حى شعبى بلا ضوابط حتى قسمته الحكومة عنوة بالكوبرى الدائرى، كما تقسم الأنف الحواجب.
تفرض عليك الرواية أسئلة عند الانتهاء من قراءتها، قد تجبرك على إيجاد حلول لها حتى وإن لزم تفكير عميق فى دور الحكومة الغافلة عن تكوين العشوائيات فى مصر وما الأسباب الرئيسية لهجرة المعدومين لمثل هذه الأماكن، وكيف تطورت العشوائيات حتى احتضنت البلطجية والمطاردين والخارجين عن القانون وكيف أقامو دولتهم داخل الدولة.