عدت مؤخراً من زيارتى إلى البرازيل، بعد المشاركة للمرة الأولى فى معرض ساو باولو الدولى للكتاب، وكانت فرصة مثالية لاكتشاف ما تحفل به هذه الدولة النابضة بالحياة، وما جاورها من بلدان تتقاسم معها الأرض والتاريخ والمصير، من نقاط تواصل والتقاء مع العالم العربى، خصوصاً فى ظل التحول الاقتصادى والاجتماعى الكبير الذى شهدته دول أمريكا اللاتينية على مدار العقد الماضى، والتراجع فى معدلات الفقر والأمية، التى حرمت فى السابق الكثيرين من سكان تلك المنطقة من متعة القراءة واقتناء الكتب.
لقد أتاحت لى هذه الزيارة فرصة التواصل والنقاش مع الناشرين، والمفكرين، والمؤلفين من كافة بلدان أمريكا اللاتينية، حيث استنتجت أنه وبالرغم من بعد المسافة الجغرافية، إلا أن أمريكا اللاتينية تتشارك معنا تجربةً حديثةً من التطور الاقتصادى والاجتماعى التى أوجدت جيلًا مثقفاً فى العالم العربى وأمريكا اللاتنية يتخذ من القراءة وسيلة لدخول المستقبل، وهذا ما يؤكد لى أن القواسم المشتركة التى تجمعنا مع هذه المنطقة من العالم يمكن أن تساهم فى تطوير وتنشيط العلاقات مع دول أمريكا اللاتنية على مستويات عديدة.
وفى مثل هذا التطور السريع والنمو الاقتصادى، ارتفعت معدلات الاستثمارات الحكومية فى مجال التعليم والمعرفة والصحة والبنية التحتية، ما عزز الاهتمام نحو التحول للاستثمار برأس المال البشري، ونظراً لأن دور النشر لها دور رئيسى فى نشر المعرفة بأمريكا اللاتينية والعالم العربى وجميع أنحاء العالم، فقد لعبت دوراًمحوريا فى تعزيز تلك التحولات.
وجدت فى أمريكا اللاتينية، كما هو فى العالم العربى، مجتمعاً شاباً، أكدته إحصاءات الأمم المتحدة التى أشارت إلى أن الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً يمثلون ما يقارب من 20% من سكان المنطقتين، وهذا القطاع السكانى المتنامى والمليء بالحيوية، يرتبط بالتكنولوجيا الرقمية، وتتزايد فيه معدلات التعليم والثقافة، ويرغب بالحصول على المزيد من تنوع المحتوى، وهو ما يتيح للناشرين الدوليين، فى كلتا المنطقتين، فرص نمو ضخمة ويعزز التجارة البينية الإقليمية مع الأسواق الناشئة فى قطاع النشر.
ولكن رغم هذا التقارب بين العالمين، هناك فجوة كبيرة فى العلاقات التجارية بين دور النشر فى أمريكا اللاتينية ونظيراتها فى العالم العربى، حيث أن أحدث الإحصاءات التجارية الصادرة من الأمم المتحدة توضح أن حجم تجارة الكتب بين العالم العربى وأمريكا اللاتينية يبلغ قرابة مليون دولار سنوياً فقط، وأن 94% من تلك التجارة هى صادرات الكتب من العالم العربى إلى أمريكا اللاتينية، وهذا يعنى أن الناشرين فى هذه القارة، القريبة منا فى مجتمعها الشاب، وصاحبة الأسماء العالمية الشهيرة فى الرواية والأدب، لم يكتشفوا بعد جميع الفرص التى يمكن من خلالها الدخول إلى أسواقنا، وتعزيز تجارة الكتاب بين منطقتينا.
وتوضح نفس الدراسة نشاط صناعة النشر والكتب فى دولة الامارات العربية المتحدة حيث أن دولتنا تُصَدِّر ما نسبته 83% من إجمالى الكتب العربية إلى أمريكا اللاتينية سنوياً، وهذا ما يُحفزنا على المزيد من التطوير لصناعة النشر فى دولة الامارات وجميع الدولة العربية ومشاركة ثقافتنا وفكرنا مع جميع أنحاء المعمورة. وفى المقابل، تقدر قيمة صادرات الكتب من أمريكا اللاتينية إلى الدول العربية بـ59,314 دولاراً أمريكياً فقط، حيث أن 80% من إجمالى هذه الصادرات يتوجه إلى كل من الإمارات، والسعودية، والكويت، والجزائر، ولبنان، والأردن.
وفى نفس السياق، فإن تجارة الكتب المترجمة بين المنطقتين لا تزال ضئيلة على الرغم من زيادة الطلب العالمى على الأدب القصصى المترجم ومقارنة بعدد المغتربين العرب الكبير فى أمريكا اللاتينية، ووفقاً لفهرس الترجمات بمنظمة اليونسكو، فقد تُرجم 97 كتاباً من اللغة العربية إلى البرتغالية، وهى اللغة الرسمية فى البرازيل، بينما تُرجم أكثر من 1000 كتاب من اللغة العربية إلى اللغة الإسبانية المنتشرة فى معظم بلدان أمريكا اللاتينية، فى حين تمت ترجمة 373 كتاباً بالإسبانية و36 كتاباً بالبرتغالية إلى اللغة العربية. وهذه الأرقام تؤكد على وجود فرص كبيرة لتطوير وتعزيز العلاقات التجارية فى مجال صناعة الكتب والنشر والترجمة بين المنطقتين.
تعيش فى أمريكا اللاتينية جالية عربية كبرى، يقدر عدد أفرادها بما يتراوح بين 17 و30 مليون نسمة، وهذا يجعلها أكبر قارة تستأثر بالعرب خارج حدود بلدانهم الأصلية، ويتراوح أعداد المغتربين العرب فى أمريكا اللاتينية بين 1400 شخص يعيشون فى غويانا الفرنسية، التى يقيم فيها العدد الأقل من العرب فى القارة، فيما يصل عدد الجالية العربية فى البرازيل إلى 12 مليون نسمة، أى أكثر من عدد السكان فى العديد من الدول العربية. وتشير التقديرات إلى أن عدد المغتربين من أصول لبنانية فى البرازيل وحدها أكثر من عدد اللبنانيين الموجودين فى لبنان نفسها.
ورغم أن المغتربين العرب فى أمريكا الجنوبية أكثر اندماجًا سياسياً واجتماعياً من نظرائهم فى أوروبا على سبيل المثال، فإنهم ما زالوا يحتفظون بالانتماء الثقافى لأوطانهم. فمثلاً تحظى كتب الطهى الخاصة بالمأكولات العربية بشعبية كبيرة فى أمريكا اللاتينية، إضافة إلى الكتب التى تتناول تاريخ العالم العربي، وعاداته، وتقاليده، والأعمال الأدبية، وخاصة الرواية، وبالتالى هناك فرصة كبيرة للناشرين العرب لزيادة حجم الكتب العربية المترجمة فى أسواق أمريكا اللاتينية، وتتضح فرص نمو هذه المنتجات الثقافية من خلال الصادرات الإماراتية إلى أمريكا اللاتينية والتى ارتفعت نسبتها إلى 186% فى الفترة من عام 2009 إلى آخر عام توافرت فيه الإحصاءات.
قرأت ذات مرة مقالاً فى مجلة "Publishing Perspective" تحت عنوان "نعمة الترجمة: هل يمكن للقراء بأمريكا اللاتينية أن يتفوقوا على القراء الإنجليز؟"، اعتبر كاتبه أن نجاح الناشرين من أمريكا اللاتينية يتمثل فى اجتياحهم لسوق الترجمة بالمملكة المتحدة من خلال مجموعة من الكتب المترجمة. بينما لم يحققوا نفس النجاح فى الحصول على فرص متاحة لدخول سوق العالم العربي، رغم وجود اهتمام كبير من قبل القراء العرب بالحصول على الأعمال المترجمة، التى تحمل أسماء كتّاب لاتينيين، وخصوصاً فى مجال الرواية.
وبالرغم من أن وجود نهج مماثل للوصول للقُرّاء الناطقين باللغة الإنجليزية فى دول مجلس التعاون الخليجى قد يكون فعالاً، فإن النهج الذى قد يكون أكثر نجاحاً لدخول السوق العربية هو التركيز على الكتب العربية المترجمة لتلبية الطلب على التنوع الأدبى الذى لم يستطع الناشرون العرب تلبيته حتى الآن.
من جانب آخر، أظهرت العديد من الدراسات أن التركيز التقليدى لدور النشر العربية على موضوعات محددة مثل الثقافة، والتاريخ، لم يتطور ليواكب اختلاف أذواق القراء وتفضيلاتهم للموضوعات الأكثر تنوعاً. وباعتبارها واحدة من أكثر المناطق ارتباطاً بالتكنولوجيا الرقمية على مستوى العالم، فإن سكان المنطقة العربية، والذين يشكل الشباب نسبة كبيرة منهم ويتبنون وسائل التكنولوجيا الحديثة والتقنية الرقمية، يوفرون فرصة كبيرة لدور النشر فى أمريكا اللاتينية لتلبية الطلب المتزايد على المحتوى العربى المتمثل فى الكتب الإلكترونية، والتطبيقات، والفيديو، والتسجيلات الصوتية، والأجهزة المعلوماتية، والألعاب، والتعليم الإلكتروني.
لقد حصل شبه إجماع بين زملائى العرب واللاتينين خلال معرض ساو باولو للكتاب على ضرورة المشاركة الفعالة للناشرين الإماراتيين والعرب فى معارض الكتب الرئيسية بأمريكا اللاتينية، مثل معرض بوينس آيرس ومعرض غوادالاخارا الدوليين للكتاب، إضافة إلى مشاركة الناشرين اللاتينيين فى معارض الكتب العربية، إلى جانب الاستفادة من الدعم الحكومي، ومنح الترجمة، والجوائز الأدبية، لتعزيز العلاقات الثقافية بين الجانبين، والتى ستثرى قطاع النشر وتفيد القراء فى مختلف أنحاء العالم.
إن ترسيخ العلاقات الثنائية بين المنطقتين لا يتحقق بالتبادل الدبلوماسى والتجارى فى السلع فحسب، بل أيضا بتعزيز التبادل التجارى فى قطاع النشر والثقافة بين العالم العربى وأمريكا اللاتينية مما سيؤدى حتما إلى تمتين روابط التعاون والتفاهم بين شعوب المنطقتين، ونحن فى جمعية الناشرين الإماراتيين عازمون على المضى قدما فى تطوير العلاقات الثنائية مع أمريكا اللاتينية وعلى تطويرصناعة النشر وفتح قنوات جديدة مع جميع شعوب العالم والاستفادة من فرص كثيرة ومتنوعة فى صناعة آفاق أوسع بكثير مما هى عليه الآن!