فى سلسلة "كتاب الهلال" الشهرية، صدر هذا الأسبوع كتاب جديد عنوانه "مدن دفينة" تأليف الكاتبة الأمريكية جينى هول، وترجمة الشاعر المصرى الحسين خضيرى.
المصادفة وحدها لم تكن وراء هذا الكتاب، بل وراء اكتشاف مدينة دفنت عام 79 ميلادى، يذكر المترجم فى مقدمة الكتاب أنه فى عام 1879، كان هناك فلاح إيطالى يحفر قناة للرى فى حقله، فاكتشف شارعا فى مدينة، هى مدينة بومباى أو بومبى Pompeii التى بُنيت قبل أكثر من ألفى عام، وتبعد عن روما مسافة ساعتين بالقطار، وكانت المدينة على حالها مدفونة وقد تحجرت جثث سكانها، وبقيت على حالها وقت الكارثة، وظلت حبيسة النسيان والرماد والحمم البركانية المتجمدة طيلة قرون.
البداية فى ضحى يوم 24 أغسطس 79، وقد أعد أهل بومبى للاحتفاء بإله النار، حين تصاعدت السحب الدخانية كشجرة صنوبر وحجبت الشمس عن المدينة وأحالت نهارها إلى ليل دامس، وأُمطرت المدينة مطرا أسود فسمع السكان ضجة عظيمة وانفلقت الصخور، وانطلق اللهب والدخان نحو السماء ثم انصب هذا كله على رؤوس السكان، قليلون من أدركوا النجاة إذ فروا إلى الميناء، وآخرون لاذوا بالبيوت، وآخرون سحقتهم الصخور، وإن هى إلا لحظات وانصبت عليهم الحمم البركانية صبا ووارت المدينة تحتها وغطتها مسافة ثلاثة أمتار! تم اكتشاف المدينة بعد حوالى 1600 عام، فعثر على السكان وقد اختنقوا وما مستهم الحمم البركانية، حيث تحجرت جثثهم تحت الرماد، حتى إنه تم العثور على عائلة كاملة وهى تقوم بأمور حياتها العادية وقد ماتوا على حالهم متأثرين بالهواء الكبريتى السام، حتى أوانيهم وحيواناتهم ظلت كما هى!
تقول المؤلفة "لنا أن نتصور كيف سقطت الأقداح من يدى الرجال مُحدثة دويا حينما أرعد بركان فيزوفيوس.. وجد المكتشفون فى متجر واحد، قدحا مكسورا على نافذة الخزينة وقد لطّخ رخامَ المتجر، ولكن تظل المخابز هى أكثر المُحال تشويقا! فلقد وُجد عشرون منها فى بومبى، ولسوف ترى الأفران فى الفناء، إنها خلايا نحل كبيرة، بُنيت من الحجر أو الطوب، أشعل الخباز النار فى الداخل وترك الجدران تلتهب، ثم جرف الفحم إلى الخارج ونظّف الأرضية وأدخل خبزه، قامت الجدران بإنضاج أرغفة الخبز، وعثر المكتشفون فى أحد الأفران على رغيف محترق منذ ما يقرب من ثمانمائة عام! فهل انتزع الخبّاز بقية حمولة الفرن من الأرغفة ليطعم أسرته الجائعة بينما راحوا يلتمسون الأمان فى الظلمة الدامسة، حين رجّ الزلزال بيته؟ لسوف ترى المطاحن فى مخابز عدة أيضا، يتحرك الحجر العلوى الثقيل مستديرا فوق الحجر السفلى، وفى الأعلى رجل يصب القمح، فيسقط مطحونا ما بين الحجرين ثم يُطرح خارجا للأسفل وقد تحول إلى دقيق، ورُبط حصان أو حمار إلى الطاحون ليجعلها تدور وتدور ويظل على حالته تلك طيلة النهار، وقد عُصبت عيناه كيلا يصيبه الدوار، سوف ترى الممر الذى صنعته سنوات من وطء الخطى التى مرت على الأرضية الحجرية فى أحد المخابز، لا بد وأن هذا الفناء الخالى قد شهد مكانا شيقا ذات يوم!".