"ظللت أكلم نفسى طوال طريق العودة وأنا قابع فى عربة الحنطور أطالع وجوه المارة القليلين بالشارع، كدت أصرخ فيهم: يمكنكم أن تنادونى باسم أبى مؤقتا، فاسمى لم يعد مهما، أنا نفسى لم أكن أتذكره، كل ما يعنينى الآن أن أعرف نهايتى بعدما كبرت مشاكلى وتشعبت كخيوط عنكبوت، ربما هو نسيها بعد أن ظل شهورا ينسجها، وربما هجرها منذ زمن بعيد وتركنى عالقا بها وحدى أواجه مصيرا مجهولا".. النوبة وناسها ومشاكلها وتاريخها ونيلها، هى موضوع الرواية المهمة التى كتبها المستشار أشرف العشماوى مستعينا بخبرة ذاتية من عمله مساعدا لوزير العدالة الانتقالية بصفته مسئولا عن الملف النوبى، فى النهاية قدم استقالته من هذه المهمة الثقيلة عندما رأى أن لا أحد يستمع لقوله، وقدم رواية "تذكرة وحيدة للقاهرة" الصادرة عن دار المصرية اللبنانية.
فى الرواية يعيش النوبى "دهب عجيبة سر الختم" حياة دائرية غريبة، تبدأ من التماسيح وتنتهى إليها، تتفتح عينيه على مشروع البريطانى السير ويليام ويلكوكس بتعلية خزان أسوان وتنتهى بالمحاولة الأخيرة للاستيلاء على ما تبقى من هذه الأرض عن طريق بدر المغازى وعصابته.
رحلة طويلة قضاها دهب عجيبة سر الختم بين النوبة وأسوان والقاهرة والإسكندرية وسويسرا ثم العودة للنوبة مرة أخرى، رحلته ليست مكانية فقط، فحتى اسمه أصابته هذه الرحلة بتغيرات أثرت بشكل كبير على هويته، البداية كانت مع "عجيبة" كان الجميع ينادونه به رغم أنه اسم والده متناسين اسمه "دهب" كأنه لا يمثل امتدادا لشىء، خاصة أن والده كان قد تسبب فى عمل لا يعرف هو إن كان بطولة أم أنه كان عملية انتحارية، الغريب أن "دهب" سيجد نفسه فى النهاية مضطرا لصناعة موقف مشابه لما فعله والده.
فى القاهرة وعلى يد بدر المغازى تحول اسمه إلى فارس حبيب حبشى مسيحى من السودان، وفى سويسرا أصبح اسمه "جون ليون برنار" وفى كل مرة تضيع هويته الحقيقية تحت ركام الشخصية الجديدة، ويظل هو فى داخله يتقلب على نار الضياع التى تطارده طوال الوقت.
الهاجس الأكبر الذى يطارده هو أن زوجته مسكة وابنه عجيبة، لا يعرف مصيرهما، وإن كانا غرقا فى النهر أم كتبت لهما النجاة، لكن بالنسبة له هما الشىء الوحيد الذى يبقيه حيا، وكل رحلته التى تشرد فيها كانت للبحث عنهما، لقد تحمل "عجيبة" أكثر مما يحتمل الإنسان العادى، حياة طويلة ممتلئة بالمعاناة، فى بلاد الله التى لا ترحم، وبين شخصيات لا تعرف سوى المصالح، وأنظمة حاكمة تحب الشو الإعلامى أكثر من الحقيقة.
تمتد الرواية من ثلاثينيات القرن العشرين وحتى الثمانينيات، أكثر من 50 عاما والمعاناة مستمرة وما زالت، والجميع لا يعرف عن النوبة وناسها شيئا ويرون أن تضحيتهم بسيطة ومن أجل الوطن، مع أن الوطن نسيهم على الدوام ولم يذكرهم، وفى النهاية عاد "عجيبة سر الختم" الذى لا تملك سوى التعاطف معه، محملا بالهموم ومثقلا بالوجع لتطارده الأشباح "بدأت أرى أمامى وجوها كثيرة الآن، كلها آتية من الماضى، تخترق ذاكرتى وتمر أمام عينى فلا أرى سواها ولا أشعر بمن حولى".