"ونحن نرى أن ما ذكره المؤلف فى هذه المسألة هو بحث علمى لا تعارض بينه وبين الدين ولا اعتراض لنا عليه.. حيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر، فلذلك، تحفظ الأوراق إداريا".. كان ذلك جانبا من التقرير الذى كتبه "محمد نور" الذى كان يحقق مع الدكتور طه حسين حول كتابه "فى الشعر الجاهلى" الذى أثار أزمة كبرى فى عشرينيات القرن الماضى، وتظل هذه القضية نموذجا يحتذى به عبر العصور فى التعامل مع الفكر والثقافة والبحث العلمى، هذا ما أراد أن يقوله الروائى الكبير خيرى شلبي فى كتابه "محاكمة طه حسين" والذى أعادت جريدة القاهرة بالاشتراك مع الهيئة المصرية العامة للكتاب نشره فى عددها الأخير.
والكتاب فى مجمله هو نص التحقيقات التى أجراها النائب "محمد نور" مع الدكتور طه حسين فى سنة 1926 بعد البلاغات التى قدمت من الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالى بالأزهر، ومن شيوخ الجامع الأزهر، ومن عبد الحميد البنان عضو مجلس النواب، يتهمون فيها الدكتور "طه" بأنه نشر ووزع وعرض للبيع فى المحافل والمحلات العمومية كتابا أسماه "فى الشعر الجاهلى" طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامى.
وما يلفت النظر بداية أن هذه البلاغات قدمت من الفترة ما بين 30 مايو 1926 و14 سبتمبر من العام نفسه، لكن النائب العام انتظر مجيء الدكتور طه حسين الذى كان خارج مصر فى 19 أكتوبر وبدأ بعدها التحقيق.
ونص التحقيق الذى نشره كتاب خيرى شلبى يدل على الثقافة التى كان يتمتع بها "محمد نور" الذى لم يستبعد "شلبي" أنها نتاج ما أحدثه طه حسين فى الشارع المصرى من حراك ثقافي، وربما كان نور قد تتلمذ على يد طه حسين فى الجامعة.
ومقدمة خيرى شلبى للكتاب لا تقل أهمية عن نص التحقيق، حيث يقول فيها "الثقافة فى زمن طه حسين انتصرت وخرجت من المعركة سالمة وحسم القضاء المعركة لصالح حرية البحث العلمى وحرية الرأى، لكن بعد ما يقرب من 60 عاما يعود بنا المجتمع إلى أوحال العصور الوسطى، فتكرر الواقعة بحذافيرها مع الدكتور "نصر حامد أبو زيد" الذى تقدم بنتاجه إلى هيئة التدريس بنفس الجامعة وفى نفس القسم، فإذا بأوراقه تحول إلى المفتى.. دون أن يكلف أحدهم نفسه بقراءة أعمال الأستاذ بإمعان وتبصر، ولو فعل لاتضح له أن نصر حامد أبو زيد ليس فحسب مسلما وموحدا بالله، بل هو جندى من جنود الإسلام فى حقيقة الأمر.
ويضيف خيرى شلبى "إن هذا الخطاب (ويقصد به الخطاب الديني) فى الواقع هو أساس المحنة، لأنه بجهالته وتخلفه وجموده وقيامه على خرافات وأضاليل وحقائق مغلوطة يوقع الناس فى بلبلة ويكرس لمزيد من التخلف ويحجب لآلئ الدين الثمينة فى العيون، إن الخطاب الدينى السائد الآن هو الذى ينشر الفهم الخاطئ للدين، ويؤدى بالضرورة إلى أن تجف الينابيع الفكرية والحضارية للدين ويقع الانفصال التام بينها وبين الناس.