عند العامود التالى من أعمدة الكرنك الخالدة.. وقفت الكاتبة و الناشطة السياسية الدكتورة نعمات أحمد فؤاد.. عاشقة مصر وعروس النيل.. ركزت نظراتها الهادئة على الرئيس و بادرته بالقول..
"يا سيادة الرئيس.. فى موقع الإخوان الإلكترونى كتب عنى.. صنعت الدكتورة نعمات سلسلة من المقالات عن مصر القديمة أيام الفراعنة وأيام الملوك على صفحات جريدة الأهرام.. ولا أعرف ما يشغلها فى الموضوع.. فالفخر بالتاريخ المصرى القديم شىء ظاهر فى مقالاتها.. وأغلب من كتبوا فى الموضوع كانوا من العلمانيين.. هذه هى نعمات أحمد فؤاد.. مشكلتها مصريتها الزائدة عن الحد.. وأنها ربما خدعت بكتب المستشرقين حين مدحوا مصر.."
أخذ الرئيس على حين غرة وقال مرتبكاً..
" يمكن كان الكلام ده تعليق على موضوع معين.. عموماً حضرتك عارفة إننا كلنا بنحب البلد.. بس إحنا مش عايزين نركز على الأرض أكتر من العقيدة.. و.."
قاطعته الدكتورة نعمات بحزم..
"سيادة الرئيس..أخبرونى أنك تتكلم أكثر مما تصغى.. لذا فإنى قبل أن أبدأ حديثى معك فإنى أطلب منك أن تستمع إلى.. إن السمع نوع من الكرم.. استضافة رأى الآخرين.. إن حسن التلقى فن .. أتمنى أن تتعلمه.."
ابتسم الرئيس محرجاً..
" حاضر يا دكتورة نعمات.. أدينى باسمعك أهه.."
" أنا عاشقة لمصر وتاريخها.. ولقد خضت الكثير من المعارك الفكرية والسياسية لحماية تراثها وحضارتها آثارها.. بل ولم أتردد فى اللجوء للقضاء مختصمة مع الحكومة و كبار رجال الدولة فى سبيل الحفاظ على إرث شعب مصر الحضارى..
كان سلاحى هو القلم.. و إنه حقاً لشيء كبير أن يكون للإنسان قلم ولكن شيئا نفيساً أن يكون للإنسان موقف.. ومن نعم الله على أن وهبنى الكلمة والقرار.. أعنى القدرة على الاختيار الصعب.. فعرفت المواقف.. وتحملت فى سبيل مواقفى الكثير وعلوت على الإغراءات والعروض والمناصب والبريق.. فأعز منها جميعا تراب هذا البلد.. كل ذرة من هذا التراب "
وقعت كلمات : قلم..موقف.. كلمة.. قرار.. غريبة على أذنى الرئيس.. فهى آتية بصوت إمرأة..
نظرت الدكتورة نعمات إليه بعتاب..
" تذكر أيها الرئيس أننا هنا نسمع أفكارك.. أجل لقد خضت كل هذه المعارك كإبنة بارة لمصر.. و كانت صيحتى.. ليس الرجال وحدهم الذين يفدونك يا حبيبة.. و لكن النساء مع الرجال.. فأنت أمنا جميعاً بلا تفريق..
يا سيادة الرئيس .. فى كتابى (إلى إبنتي) نصحتها و معها بنات مصر.. فقلت: لابد أن يكون لك اهداف انسانية تميزك عن السواء.. فمن حق وطنك عليك أن تحسى آلامه فى عمق وولاء.. ومن حقه أن تحققى آماله فيك وآماله فى غد كريم .. كذلك حذرت ابنتى أن لا تكون تافهة.. تنحصر عندها القيم والمظاهر فى الزى.. قل لى.. هل تنوى بناء النهضة التى تتحدثون عنها بسواعد أجيال من التافهات يا سيادة الرئيس ؟.."
احمر وجه الرئيس.. و لم يرد.. فواصلت الدكتورة نعمات حديثها..
"معارك كثيرة متعددة خضتها.. لا عاصم لى إلا الله.. سفر الآثار واستباحة الآثار بالنهب والبيع والإهداء.. آثار سيناء التى نهبتها إسرائيل.. قضية متحف محمد محمود خليل.. وغيرها.. وكانت قضية هضبة الأهرام هى الوسام الذى أضعه على صدرى وأفتخر به إلى الأبد.. هل تذكر هذه القضية يا سيادة الرئيس؟ "
هز الرئيس رأسه سلباً..
" فى بدايات عصر الانفتاح.. قامت الحكومة بالتعاقد مع شركة استثمارية مقرها هونج كونج.. على بيع آلاف الأفدنة فى منطقة هضبة الأهرام الخالدة.. لإنشاء مدينة سياحية تشتمل على فنادق ومقاهى ومطاعم وبحيرة صناعية ضخمة بمساحة 12 فداناً تحت أقدام الهرم..
شعرت بالصدمة.. هضبة الأهرام ليست مجرد قطعة أرض صحراوية فضاء ليقام ليها مشروع استثمارى..إنها إرث آلاف السنين بكل عطائها وأمجادها ومعانيها.. إنها ميراث الأجداد.. نهديه ونبقيه أمانة جيل لجيل.. ما بقيت مصر وجرى النيل..
وانتفض قلمى ونشرت مقالتى.. (ارفعوا أيديكم عن هضبة الأهرام) تلتها بعدة مقالات نشرتها بشجاعة جريدة الأخبار.. وانتفض المصريون.. داخل مصر وخارجها للدفاع عن رمزهم الخالد.. اشتعل الرأى العام المصرى بل والعالمى لما يراد بالهرم.. ورفض المشروع نقابة المحامين وجمعية المهندسين والجامعات.. وقدم زعيم المعارضة استجواباً عن المشروع فى البرلمان.. أما الصحافة العالمية.. فقد ترجمت مقالاتى.. وخرجت التايمز من لندن تقول (إننا نناشد العالم المتمدين أن يتضامن معنا ليحمى تراث مصر من مصر).. كما كان العنوان الرئيسى لجريدة لوموند فى باريس هو (هل الهرم حضارة أم تجارة؟.. هل الهضبة تاريخ أم صفقة؟).. وأعربت منظمة اليونسكو ومتحف اللوفر وجامعة السوربون عن رفضهم وشجبهم للمشروع.. واستجابت الحكومة المصرية للضغوط وألغت الصفقة فى موقف محرج لمصر ورئيسها.. هذا ما فعله قلم نعمات أحمد فؤاد.. ذات المصرية الزائدة عن الحد كما تقولون.. واعلم يا سيادة الرئيس أن قلمى وآلاف الأقلام معى تقف بالمرصاد لكل من يضمر تاريخ مصر وآثارها بسوء.."
رد الرئيس مسرعاً..
"بس إحنا مش ناويين نعمل مشاريع فى هضبة الأهرام"
فتلقى نظرة قاسية من الدكتورة نعمات..
" هناك من حلفائك من أعلن نيته القيام بما هو أسوأ من ذلك.. ألم تسمع الشيخ الذى أعلن فى وسائل الإعلام عن نيته تفجير الأهرامات و أبى الهول.. حتى لا يعبدوا من دون الله؟ "
ضحك الرئيس ضحكة عصبية و قال..
" دى أكيد مبالغات.. وإحنا طبعاً مش حنسمح بحاجة زى دى تحصل.."
ازدادت نظرات الدكتورة نعمات حزماً و قالت..
"لا أستطيع أن أتخيل أن يفتخر شخص على شاشات التليفزيون بأنه كان ضمن من فجروا تمثالى بوذا فى أفغانستان.. و يعد بنفس المصير للأهرامات وأبى الهول .. و يترك طليقاً بلا حساب أو عتاب "
شدت الدكتورة نعمات جسمها فى إباء.. فبدت فى وقفتها.. رغم جسمها الدقيق.. كعملاق أضاءه ضوء القمر فى بهو الكرنك الخالد.. و بصوت هز أرجاء المعبد واجهت الرئيس..
"اعلم يا سيادة الرئيس أن تاريخ مصر هو عرض وشرف للمصريين.. والعرض والشرف ليسوا للبيع ولا للإيجار.. فأقول لكم بكل قوة..ارفعوا أيديكم عن تراث مصر.. بل تراث الإنسانية..
إن هذا الشعب صبره طويل لكن غضبته مفزعة وحلمه ثقيل.. لكن هبته مروعة فلا يغرنكم صبره حتى يضيق الضيق بالضيق.. وتضيع منكم و منه معالم الطريق.. فافيقوا أيها السادة قبل أن يفيق.. "
أنهت الدكتورة نعمات أحمد فؤاد كلامها.. وزفرت زفرة طويلة.. تلتها بإشارة من يدها فهم منها الرئيس أنه لم يعد مرغوباً فيه.. فغادر المكان على عجل.