أرسل الباحث أحمد نبيل عميرة "طبيب أردنى مقيم فى ألمانيا"، ترجمة لمقال كتبه البروفيسور الألمانى كريستيان شتوكر فى جامعة هامبورج للعلوم التطبيقية، بمجلة دير شبيجل الألمانية، بعنوان "لحسن الحظ أن الإسلام موجود"، ويدافع البروفيسور عن الإسلام، مشددا أنه ليس دينا بربريا كما يشيع البعض فى الغرب، بل إن الحضارة الغربية مدينة للإسلام والمسلمين بحفظ التراث الإبداعى الأوروبى، مؤكدا أنه "لحسن الحظ أن الإسلام موجود".
وإلى نص المقال:
عادة ما يتم عرض الإسلام من قبل منتقديه على أنه دين بربرى، بينما تعرض المسيحية على أنها تنويرية الطابع، كلا التصورين خاطئان، وفى الحقيقة لقد كانت المسيحية يوما ما هى البربرية الحقيقية.
"لقد كانت المذبحة مريعة جدا، وحسب مصادر لاتينية، فإن الجنود الذين ساهموا فى قتل الناس لم يحتملوا الأبخرة الصاعدة من الدماء الحارة المسفوكة. لقد مشط الجنود الصليبيون المدينة بحثا عمن يقتلونه، ونحروا عددا لا يحصى من الرجال وللنساء والأطفال، مسلمين كانوا أم يهودا".
هكذا وصف المؤرخ البريطانى توماس أسبريدج فى مخطوطته "الحملات الصليبية" الطريقة التى غزا بها الأوروبيون الغربيون مدينة القدس لاحتلالها عام 1099م. لقد استمرت المذبحة على مدار يومين على الأقل، لم يتم إيقافها إلا قليلا مساء اليوم الأول لإقامة القداس. ولقد وصف أحد الرحالة الذين مروا بالقدس بعد ستة أشهر من المذبحة بأن رائحة الموت وتعفن الجثث كانت ما تزال تطغى على جو المدينة.
وبالنسبة للجنود الصليبيين لم تكن المذابح هذه عملا انتقاميا فحسب، بل كانت مدفوعة بإيمان عميق أنها من عمل الرب وباسمه. فى حين أننا نظن هذه الأيام أن القتل باسم الإله محصور على دين الإسلام وحده.
إنه لمن الضرورى أن نخرج حجم المآسى السابقة إلى العلن. لنفهم لماذا تحمل كلمة "الصليبيون" فى العالم العربى كل هذا القدر من الاستفزاز حتى يومنا هذا. ولماذا يستعملها مروجو دعاية داعش لإضفاء الشرعية الدينية على جرائمهم ولإثارة الفتن والنزاعات بين العالمين الإسلامى والمسيحي. حتى أن بعضا من الغربيين يقعون فريسة لهذه الخدعة الإعلامية.
فى الحقيقة فإن العلاقة بين الإسلام وأوروبا أكثر تعقيدا وتنوعا مما يدعونا مروجو الكراهية والخوف من الإسلام لتصديقه. والحقيقة التى يخفى عنها هؤلاء ممن يشيرون لأنفسهم باسم حماة الغرب، أنه لولا العالم العربى والإسلام لبدا غربنا مختلفا عما نعرفه اليوم. لبدا أكثر ظلاما!
لفهم هذا كله علينا العودة إلى تاريخ الحملات الصليبية. حيث امتدت عصور الظلام الأوروبية بين القرنين الرابع والثامن ميلادية. عندها انتشرت المسيحية فى مناطق واسعة فى أوروبا. ولم يختلف وقتها سلوك معتنقى المسيحية والمدافعون عنها عن سلوك طالبان فى يومنا هذا: تدمير ممنهج لكل معالم الحضارة!
لقد قام القادة والقساوسة المسيحيون بحملات حرق واسعة للكتب. وتم التضحية بمكتبات كاملة باسم الرب. واعتبرت كل العلوم ما خلا الإنجيل والمخطوطات اللاهوتية خطيرة للغاية، لتشكيكها بثوابت الإيمان. والكثير من مخطوطات الفلاسفة والعلماء اليونانيين لم يكتب لها النجاة إلا أن أصحابها كانوا قد هربوا بها تجاه الشرق. "وهكذا ورث العرب كنوز أرسطو وغيره من العلماء اليونانيين" كما كتب بيتر واطسون فى كتابه التاريخى "أفكار".
لقد كانت فلسفة أرسطو محظورة آنذاك لأنها تتناول الحوار مع الرب وحوله بصراحة ومباشرة غير مقبولة. ولذلك فإن معظم أعمال أرسطو لم يكتب لها النجاة إلا بفضل المترجمين العرب. فى حين اختفت مؤلفات العديد من الفلاسفة والأدباء الآخرين كسوفوكليس وأخيلس.
ولقد امتدت يد التخريب البيزنطية لتطال الأعمال الفنية فى القرنين الثامن والتاسع ميلادية. فقد اعتبرها قادة الكنيسة رجسا من عمل الشيطان. وهو ما يذكرنا بأفعال داعش وطالبان التى لا تكتفى بتخريب الفنون بل بتدمير الإرث الحضارى مدفوعة بالجهل وحب التخريب والغباء.
ولولا فضل العرب والفرس لضاعت الكثير من المؤلفات الغربية الفكرية. ولحسن حظنا أن هذه العلوم قد تسربت لاحقا من حيزها العربى الفارسى إلى أوروبا من جديد. "وفى قرون السيطرة الإسلامية برزت حركة تبادل ثقافية نشطة بين الديانات الثلاثة." يكتب المستشرق اللبنانى البريطانى الشهير ألبرت حورانى فى مؤلفته "تاريخ الشعوب العربية". وبعكس الغرب المسيحى آنذاك ساد التسامح الدينى العالم العربي. "فخارج الجزيرة العربية عاش أصحاب الدين المسيحى واليهودى جنبا إلى جنب فى كل المدن" يضيف حوراني.
لقد حظى غير المسلمين بحماية الحاكم المسلم آنذاك طالما التزموا قوانين الدولة. وعبر التجار وطلاب العلم اليهود والمسيحيين عادت العلوم المفقودة إلى أوروبا من جديد. ويضيف المستشرق الإيطالى ذائع الصيت فرانسيسكو جابرييلي: "عبر الإسلام اكتسب الغرب عناصر تراثه الأساسية، والتى كان لها الدور المهم فى نهضته لاحقا".
وفى الجانب الطبى كان انتقال العلوم أكثر وضوحا. فحتى القرن الخامس عشر ميلادية استفاد الأطباء فى أوروبا (مقيدين بعداء الكنيسة الدائم للعلوم) من معارف الأطباء العرب والفرس كابن سينا وكتابه المشهور "القانون فى الطب".
لولا العالم العربى ولولا الإسلام لاختفى جزء كبير مما يعد اليوم تراثا غربيا وإلى الأبد. وبينما يتم عرض الإسلام فى يومنا هذا من قبل منتقديه على أنه دين بربرى بإزاء مسيحية تنويرية. فإن الفضل الحقيقى للثقافة العربية الحديثة إنما يعود للابتعاد عن الدين وتحكيم العقل والمنطق. سواء فى الأزمنة الماضية أم فى عصور التنوير.
وعندما نستعرض التاريخ المتقلب لأوروبا والإسلام نخرج بنتيجة أن تمكين الدين المنظم (أيا كان) من تحديد القيم السياسية والمجتمعية أمر خطير. لا يحتاج بعدها إلى تقديم أى مبررات منطقية لاستخدام العنف. الأمر الذى ينتهى بنا إلى مجازر بحق البشر وبحق معالم الحضارة. وهو ما ينطبق على المسيحية كما ينطبق تماما على الإسلام.