أبرق عبدالله نديم من منفاه بـ«الأستانة» عاصمة الدولة العثمانية إلى أخيه وأمه يدعوهما للحضور: «لم تكن هناك زوجة ولا أب ولا أم ولا أولاد، تلك الحاشية التى عاش نديم بدونها، ولم يعد يريد الآن أكثر من أن يلقى على من تبقى منهم نظرة»، هكذا يلقى «أبوالمعاطى أبوالنجا» الضوء على أمنية «نديم» الأخيرة، مضيفا فى كتابه «العودة إلى المنفى» «مكتبة الأسرة - الهيئة العامة للكتاب - القاهرة»: «بقى فى انتظارهما وأخذت ساعات الليل والنهار تمضى بخطى أبطأ، وفى كل مرة يفتح عينيه متفحصا وجوه الزائرين باحثا بينها عن وجه أو وجهين ينتظرهما بصبر نافذ».
هكذا عاش أيامه الأخيرة، بعد أن كان وحده يقوم أثناء الثورة العرابية بـ«الدور الذى تقوم به الآن الصحافة والإذاعة والسينما» حسب قول «أحمد بهاء الدين» فى كتابه «أيام لها تاريخ» «دار الهلال - القاهرة» مضيفا: «لا يمر عليه يوم إلا ويلقى فيه ثلاث خطب أو أربعا، فى الشوارع والسرادقات، فى المدن والبنادر والقرى، ناجحا جدا مع العمال والفلاحين والبسطاء، يفتح لهم قلبه، ويهز أكتافهم ويعلمهم الكلمات، مستعينا بكل تجارب حياته بينهم، وذاكرته الحساسة التى تلتقط طباعهم وتدرك أمزجتهم، مستخدما كل أدوات التمثيل والتهريج والإلقاء، ثم هو لا يكتفى بنفسه، فيجمع تلاميذه يعلمهم الخطابة ويجعل منهم فرقة دعاية لا نظير لها، تطوف معه الأقاليم، لتساعده فى نشر الدعوة» ويتساءل «بهاء»: «أليست هذه أول حملة دعاية عرفتها مصر؟».
اختفى بعد هزيمة الثورة العرابية وحسب مقال «عبدالله نديم أفندى» لأحمد تيمور باشا فى مجلة الرسالة «العدد 47 - 28 مايو 1934»: «لما وصل إلى كفر الدوار بلغه القبض على زعماء الثورة ودخول الإنكليز القاهرة، فعاد إليها ليلا وبقى فى داره بجهة العشماوى إلى الصباح، وخرج مع والده وخادمه فركبوا عجلة وقصدوا بولاق ولما وصلوا ودعه أبوه واختفى هو وخادمه ولم يظهر له أثر فأقام مختفيا نحو تسعة أعوام».
تم القبض عليه فى بلدة «الجميزة» مركز «السنطة» محافظة الغربية بوشاية، وعفا الخديو توفيق عنه بشرط أن يترك مصر، فاختار «يافا الفلسطينية»، ثم عاد بعفو من الخديو عباس حلمى الثانى سنة 1892، وجدد نشاطه فى مقاومة الإحتلال الإنجليزى وأصدر مجلة «الأستاذ»، فنفى مرة ثانية إلى يافا بشرط ألا يتكلم فى السياسة وألا يهاجم الإنجليز، لكنه تكلم فى كل شىء وهاجم السلطان «العثمانى» نفسه حسب قول «أبوالنجا» فقرر السلطان إبعاده عن كل الأراضى التابعة له، وبتدخل من «الغازى مختار باشا» المندوب السلطانى بالإسكندرية كانت «الأستانة» هى محطته النهائية، وعمل فيها مراقبا للمطبوعات بمرتب قدره 45 جنيها شهريا، وفيها التقى بأستاذه جمال الدين الأفغانى المنفى هو الآخر، ليخوض معه معركته إلى جانب أستاذه «جمال الدين» ضد رجل فى حاشية السلطان عبدالحميد اسمه أبوالهدى الصيادى وحسب أبوالنجا: «كان أبوالهدى فى إحساس نديم تركيزا نقيا لكل رذائل الشرق التى ظل يحاربها طوال حياته، وألف ضده واحدا من أعجب كتبه سماه «المسامير»، وحين عرف أبا الهدى أصابه ذهول لكنه وجدها فرصة ليبعث مخاوف السلطان وشكوكه، وليوهمه أن هذه الخطوة بداية مؤامرة يديرها الإنجليز لنقل الخلافة إلى مصر.
زار الخديو عباس الأستانة لأول مرة عام 1894 والتقى بـ«جمال الدين ونديم» الذى حلم بالعودة معه، لكن الحلم لم يتحقق، ثم تجدد فى زيارة ثانية للخديوى وبالفعل ركب معه على ظهر السفينة، لكن فى آخر لحظة تم وقفها بأمر من السلطان وإنزاله منها بوشاية من «أبوالهدى».
أبرق «نديم» للسلطان غاضبا: «إنك أنت أمير المؤمنين القادر على الانتقام بلا معارض، ولكننا سنقف بين يدى عادل قاهر يقضى بيننا بالحق، هو خير الحاكمين» وحسب «أبوالنجا»: «كانت تلك آخر انتفاضة وآخر غضب»، فى نفس الوقت كان المرض ضيفا حل فى صدره ولأن عودته إلى مصر أصبحت أملا بعيد المنال طلب من حكومة السلطان أن تأتى بأمه وأخيه لرؤيتهما فوافق، لكنهما حين وصلا «كان قد رحل كعادته ودون أن يقول لهما إلى أين»، وقادهما جمال الدين إلى مقبرة «يحيى أفندى فى باشكطاس» حيث يرقد منذ وفاته فى مثل هذا اليوم «10 أكتوبر 1896» وعمره 54 عاما فقط «وقفت العجوز ترقب مقبرته فى صمت ودون أن تطرف أو تبكى، لا تعرف عنه سوى أنه ولدها الذى كانت دائما تفتقده».