قال الكاتب الجزائرى الكبير واسينى الأعرج، إن المعنى والشاعر الأمريكى بوب ديلان، الفائز بجائزة نوبل للآداب 2016، ينظر للعالم والحرية بعين واحدة، فقد أيد الصهيونية كفكر وأيديولوجيا عنصرية؟
وأضاف واسينى الأعرج فى مقال له بعنوان "بوب ديلان… الحرية بعين واحدة" نشر على موقع القدس، لم يكن خيار نوبل هذه السنة موفقًا، هذا ما يعتقده الكثير من المتابعين والمختصين، لأسباب عديدة. أولها أن الجائزة اسمها جائزة الآداب، وتمنح لكاتب متمرس أنجز أعمالاً تركت آثارها الإيجابية على المستوى الإنسانى.
بوب ديلان مغن معروف وكبير وعالمى. لا نقاش فى ذلك. فهو على رأس جيل بكامله، واخترق أجيالاً أخرى، هاجسه الأكبر، الحرية ومقاومة كل ما يهزم بذرة الإنسانية فى الإنسان، بسبب الحروب الكلاسيكية والأهلية، غير العادلة، والظلم الاجتماعى، والقهر الدكتاتورى، والمجاعات وغيرها. طبعاً، كونه مغنياً وليس أديباً، يقصيه بالضرورة من قائمة نوبل، لأنه لا يستجيب لمعطى الجائزة الأدبية.
السؤال المربك، هو هل افتقرت الساحة العالمية إلى أديب يستحقها للبحث عنه خارج سياق التخصص؟.
أحقية أدونيس بجائزة نوبل 2016
وأضاف "الأعرج": كان الحرج والحيلة واضحين فى منحه جائزة الآداب إذ تم التركيز على كونه شاعراً إنسانياً، وليس مغنياً، فأصبحت الصفة المنسية فى بوب ديلان: الشاعر، هى الغالبة، لتبرير ذهاب الجائزة نحوه. لكن، حتى لو ارتكنا إلى هذا المنطق، هناك فى الساحة الشعرية العالمية شعراء كبار يستحقونها بامتياز، كانت أسماؤهم مرشحة بقوة منذ دورات عديدة. لا نذكر فى هذا السياق إلا أدونيس الذى يشكل اليوم ظاهرة أدبية شعرية وثقافية متميزة، عربياً وعالمياً، من الناحية الشعرية، ولا أعتقد أن هذا يخفى على لجنة الجائزة، بغض النظر عن الموقف السياسى والآيديولوجى للكاتب، وهو حق من حقوقه. القيمة الأدبية لقصائد بوب ديلان مهمة وإنسانية، لكنها شعرياً، لا يمكنها أن تجعل الكاتب يرتقى إلى الصفوف الأولى من شعراء هذا الزمن. أو لنقل على الأقل بأنها ليست عظيمة بالشكل الذى تُعطى لها جائزة عالمية فى مستوى نوبل.
مواقف تأييد بوب ديلان للصهيونية
طبعاً القيمة الإنسانية عنصر مهم فى أى جهد فنى، إذ أن على الفائز، حتى يصل إلى السدة العليا، أن يبلور حساً إنسانية متقدماً نحو السلام، ونحو ما يحيط به من تدمير للطبيعة. وهو ما قام به بوب ديلان فى الكثير من أماكن الحروب والنزاعات. لكن الخلل فى العملية، ومن منطق السلام نفسه، فقد بدا وكأنه ينظر للعالم بعين واحدة. فقد أيد الصهيونية كفكر وأيديولوجيا عنصرية، ووقف فى صف إسرائيل التى تخوض حرباً مدمرة وعدوانية ضد الشعب الفلسطينى الأعزل. ربما عودة صغيرة إلى بعض هذه الممارسات يبين المسألة بشكل أوضح:
فقد ولد بوب ديلان، واسمه الحقيقي، روبير زيمرمان فى حى يهودى فى مدينة مينيسوتا، وكان يقضى صيفه فى منتجع هيرتزل الصهيونى فى ويسكونسين، قبل أن يتخلى، فى السبعينيات، عن اليهودية كدين، ويختار مكانها المسيحية. فغنى أناشيد الغوسبيل فى الكثير من الكنائس الأمريكية، التى فتحت أمامه آفاقاً كبيرة وفرت له جماهيرية كبيرة كان فى حاجة ماسة إليها. لكنه سرعان ما عاد إلى جذوره اليهودية فى الثمانينيات. فاحتفل بميلاد ابنه البكر جيس فى الحائط الغربى.
كما شارك بعدها فى التليتون هاباد، مرتديا الكيبا ولعب hava naguila قبل أن يغنى أغنيته المعروفة Neighborhood Bully مباشرة بعد الحرب العدوانية ضد لبنان، التى رفضتها حتى بعض التيارات اليمينية واليسار الإسرائيلى. استعاد فى هذه الأغنية الشهيرة مجمل المفاهيم التى بنت عليها الصهيونية مشاريعها. غناها فى شكل نشيد حربى وكأنها الأممية. يصف فيها إسرائيل فى صورة الإنسان المنفى الذى يحاول أن يحمى نفسه من جيرانه القساة. أعداؤه يقولون عنه إنه على أراضيهم. هو أقلية، ولا مكان له للهرب. ولا للاختفاء. ولم يثره الاعتداء ولا جرائم صبرا وشاتيلا.
وأغنية Like a Rolling Stone، واحدة من أكثر أغانيه شعبية وانتشاراً، والتى لا تخفى خياراته الأيديولوجية، والصهيونية بالخصوص. بعدها تكررت زياراته لإسرائيل فى ظل حروب بشعة كحرب غزة ولم تثر فيه أى شىء.
المشكل أكبر من هذه الأمثلة. فمن حقه طبعاً أن يزور الأرض التى يشاء. المشكلة ليست فى الأصل اليهودى لبوب ديلان، فهو من دين يجب أن يُحترم كبقية الأديان التوحيدية أو غيرها. لكن المشكلة الكبرى فى حالة العمى التى كثيراً ما يصاب بها كبار الفنانين المدافعين عن الإنسانية والسلام. ولو من باب الدفاع عن حق الشعوب المغلوب على أمرها، فى العيش والسلام، لا نجد أية التفاتة لمعاناة الشعب الفلسطينى.
أليس المهجرون من أرضهم، والمشردون بسبب الاحتلال، حالة إنسانية تستحق من بوب ديلان بعض الاهتمام ما دام هذا يشكل هاجساً من خياراته الإنسانية؟
لم ينتبه أيضاً للممارسات اللإنسانية الأمريكية التى أبادت الآلاف، وربما الملايين من العراقيين بحجة محاربة النووى العراقي، أو إزالة الديكتاتورية؟ وماذا عن شعوب أمريكا اللاتينية التى دمرت خصوصياتها الثقافية على مرأى من العالم، وأمام عينى بوب ديلان.
تدمير الطبيعة وثقب الأوزون والعواصف والتسونامى لا تكفى إدانتها، فهى مجرد نتائج لخيارات حداثية وما بعد حداثية لا تعطى أية قيمة للإنسان. الذهاب نحو عمق الأشياء أكثر من ضرورة بالنسبة للفنان، والشاعر بالخصوص. الإنسانية التزام واختيار له أثمانه الباهضة. لا أحد يشكك فى إنسانية بوب ديلان والتزامه بها، وشعريته الغنائية، لكن يبدو أن هناك مساحات يشتغل فيها القانون الإنسانى، وأخرى لا يمسها.
ربما ينطبق هذا على غالبية المثقفين الإنسانيين الغربيين، عن نية طيبة أو عن حسابات، مع استثناءات قليلة تؤكد القاعدة وتعرف سلفاً أن نوبل لن يلتفت نحوها.
ملاحظة أخيرة، الإخفاق الآخر لنوبل هذه السنة، مرتبط بمزاج بوب ديلان نفسه. إلى اليوم لم يرد على أى اتصال من مؤسسة نوبل التى أوقفت مساعى البحث عنه، ولا أحد يعرف إلى اللحظـة، هل سيحضر ويتسلم جائـــــزته من يد الملك، أم سيغيب؟ قد يغيب وهذا حدث سابقاً مع باستيرناك وسارتر.
فى بيت نوبل مشكلة كبيرة تتكرر كل سنة فى المجال الأدبى الأكثر حساسية، وسبب ذلك، تغليب الحسابات السياسوية، فى الكثير من الأحيان، على الخيارات الفنية، والأدب تحديداً، كما نعرفه، وكما يصنعه يومياً مئات الكتاب عبر العالم.