بالتزامن مع الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير ينشر "انفراد" جزء من رواية "بليغ" للأديب طلال فيصل، والتى تدور حول الموسيقار الراحل بليغ حمدى، والفترة التى قضاها هاربا فى باريس.. وتعيد الرواية اكتشاف تلك الفترة المجهولة فى حياة الموسيقار الشهير، حيث قضى عدة أعوام فى منزله بباريس، هاربا من الحكم بالسجن؛ الصادر ضده بعد اتهامه بمقتل المطربة المغربية سميرة مليان عام 1984.. ويزور "فيصل" منزل بليغ حمدى فى باريس، ومستشفى جوستاف روسيه التى توفى فيها هناك، كما يجرى حوارات مع جيرانه هناك، بالإضافة للفنانين والأقارب الذين شهدوا تلك الفترة فى حياته.
الجدير بالذكر أن طلال فيصل روائى ومترجم مصرى، له رواية منشورة بعنوان "سيرة مولع بالهوانم" ورواية بعنوان "سرور" عن الشاعر الراحل نجيب سرور التى فاز بها فى جائزة أفضل عمل روائى عن مؤسسة ساويرس لعام 2015.. وإلى النص:
"ياربّ، يا من يدعوك المؤمنون بوجودك، تفضل حرارة سلام، أول لقا في إيدينا، ويُمحى ما سواها من الذاكرة! يُنزلنا التاكسي أمام مكتبة ديوان بالزمالك فننزل وأحاسبه. ندخل المكتبة فتطالع العناوين بغير اهتمام، وأشتري أنا نسخة من روايتي - سيرة مولع بالهوانم - وأعطيها لها. تسألني مبتسمة – "ماذا أفعل بها" ولا أجد جوابا. بارتباك أقول - حتى تتذكريني حين ترينها! فتجيب أنها يمكن أن تقرأها حين يتحسن مستواها في اللغة العربية. تغمض عينيها وتقول شيئا يبدو أنها حفظته في دروس العربية "حبيبي مجنون. حبيبي مهبول" ثم تضحك في ابتهاج صاف.
خدتني في الحب بغمضة عين، وريتني حلاوة الأيام فين، وأقول، يمكن لي كذلك أن أقرأها لك، وأحكي لك ما فيها - بفرنسيتي البائسة! ولا أعرف بالضبط ماذا تقصد، ولكنها تقول وهي تنظر لرفوف الكتب - تريد أن نقرأ الحكايات معا، ونحن نشرب نبيذ الـSept Lunes تحت ضوء القمر. تحبُك الشال الأحمر وتقول فجأة بلا مقدمات أنها تشعر بالبرد وأننا ينبغي أن ننصرف. حين أطالع الآن كل ذلك في ضوء ما جرى بعدها ينفجر في صدري بركانٌ هائل من الغيظ، الغيظ من سذاجتي، ومن إدراكها المبكر لهذه السذاجة. نتمشّى حتى محطة البنزين ونعرج يمينا إلى سفارة البرازيل ومنها لشارع أحمد حشمت. نقف أمام عمارة مهيبة ضخمة، فتقول Voila، فأدرك أننا وصلنا. تلك اللحظات المرتبكة، كيف يتطور الأمر، هل أحاول تقبيلها هنا، هل أصعد معها؟ هل أطلب الصعود أم أنتظر حتى تدعوني؟ هل أطلب دخول الحمّام، مثلا، ليكون مبررا لصعود! وأتراجع عن الفكرة؛ ياله من مبرر مقرف. لم أدرك لحظتها أنها تقرأ أفكاري وتراقبني مترصدة، في رثاء، كيف سأتصرف.
على مهل، تقول في هدوء "سأصعد الآن. شكرا على هذه الليلة اللطيفة وشكرا لتوصيلي!" أتحرك معها داخل العمارة ولا ألقى ممانعة، نقفُ عند باب المصعد، أضغط الزر، وأنظر للعينين الماكرتين، أحيط خصرها بذراعي وأقبّلها. هذه هي القبلة التي نراها في الأفلام إذن. رغم النشوة المُسكرة أشعرُ بشىء من الإحباط؛ فمها له مذاق السجائر ومذاقٌ آخر مُرّ، هو على الأغلب من أثر الكحول.
تقبض على ذراعيّ بعنف وتحرك لسانها داخل فمي أكثر من مرة فأشعر بالارتباك، كأني أمتطى مُهرة بلا لجام لا أعرف كيف ألاحقها. أتحسس ظهرها وأدرك أنها لا ترتدي شيئا تحت القميص الكتاني الأبيض السميك، غير السوتيان - ولا أعرف كيف لم أنتبه طول ذلك الوقت - فيُجن جنوني. أحرك يدي من تحت القميص وأتحسس صدرها فتتحرك خطوة للخلف وتدفعني برفق هامسة "كفى" لا أفهم تماما، فتكرر تلك الـ "كفى" أكثر من مرة برفق – "كفى. يكفى هذا اليوم." يخرج صوتي واهنا، مرتبكا "أصعدُ معك ..؟" فتقول بوضوح لا يسمح بمناقشة "كلا. ليس اليوم" تطبع قبلة على جبيني وهي تفتح باب المصعد، تسأل "أنت بخير..؟" فأجيب محبطا "تمام، تمام" فتقول باسمة "كان هذا هو الشرط. وشكرا لتفهمك" وتركب الأسانسير سريعا وهي تغمغم بصوتها الفاتن À tout à l’heure. ولا أفهم بالضبط، ولكني أخمن أننا سنلتقي قريبا. أو هكذا أرجو.
أقسم لك بأي شىء مقدس يؤمن به أي أحد، لعل تلك كانت أجمل لحظات علاقتنا البائسة على الإطلاق، يا دكتور. المشىُ نشوانا عودة للبيت، نزول الكبري عند الكورنيش والمشي في اتجاه عبدالمنعم رياض حيث ينبغي لي أن أركب لفيصل. من دقائق معدودات كان فمي في فم تلك الفرنسية الدقيقة التكوين، تخفّ خطوتي وأنا أكاد أرقص طربا، مستمتعا بنسمة الشتاء العذبة، تهل من جهة النيل. يبدو كل شىء جميلا، في يوم جدير بالتدوين، في يوم حافل بالمعجزات التي لا سبيل لوصفها. هكذا يصيب العاشقين الجنون. وعند مدخل عبدالمنعم رياض يلفتني منظر الحشود المتجمهرة وعدد عساكر الأمن المركزي.
يستوقفني ضابط عند مدخل الميدان. "بطاقتك؟ جاي منين ورايح فين؟" ولا أفهم شيئا، يدفعني بغلظة ويطلب مني أن أتخذ طريقا آخر وأروّح بيتنا. أدرك أن هناك قلقا ما، ثم أتذكر فجأة الدعوات للحشد التي انطلقت قبلها بأيام، والتي لم أتعامل معها بجدية، بل أني كتبت ساخرا من تلك الثورة التي يتم الدعوة لها بـEvent على الفيسبوك. أعبرُ للناحية الأخرى وأستقل تاكسي للبيت، وأنا أفكر في مارييل، في كل ما حدث، متى أكلمها ثانية، أفكر في تلك اللحظة التاريخية المدهشة، ذلك اليوم الذي يستحق التدوين. أفكر في القبلة الأولى الواعدة بأشهى الثمار والحكايات، والتي جرت وقائعها ليلة الـ 25 من يناير عام 2011! فتدبّر.