«أكل الجمع المحتشد من الطعام الفاخر المجهز بمعرفة أمهر الطهاة أكلا هنيئاً، وشرب شراباً فاخراً، وتجاوز بعضهم فى ذلك الحد، لاسيماً من لم يكن يحلم بمثل تلك المأكولات الملكية مطلقاً»، هكذا كان حال الضيوف الذين تجمعوا لتناول العشاء، مساء يوم افتتاح قناة السويس فى «مثل هذا اليوم 17 نوفمبر 1869»، وحسب «إلياس الأيوبى» فى كتابه «تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل باشا» عن «مكتبة مدبولى - القاهرة»، فإن أحد الفرنسيين نهض عن المائدة بعد أن التهم ما عليها من طعام، ومر بيديه على بطنه مملسا صديريه الفسيح، وقال مبتسما لصديق له يجلس على نفس المائدة»: «إنى أكلت ثروة ثلاثة فلاحين مصريين»ويمضى «الأيوبى» فى وصفه: «بعد الفراغ من تناول طعام العشاء، أقام الخديو مرقصا لعموم مدعويه، تحت رئاسة إمبراطورة فرنسا «أوجينى»، بذل فيه ما لا يستطيع قلم وصفه من البذخ وصنوف اللذات ودواعى السرور، ورتب فيه مقصفا حوى ألذ ما طاب من صنوف المآكل والمشروبات».
يتحدث «الأيوبى» عن استعدادات الخديو لافتتاح «ترعة السويس»- هكذا كان اسمها- مؤكداً أنه أرسل يستحضر خمسمائة طاهٍ، وألف خادم من فرنسا وإيطاليا زيادة على طهاته وخدمه المصريين، وبعث يرجو «ديلسيبس» بأخذ الاستعدادات اللازمة لضيوفه ستة آلاف مدعو. يضيف «الأيوبى» أن الخديو كبّ على وضع الترتيبات، وأصدر الأوامر وتحرير الدعوات التى صمم عليها، وأجاب على دعوته من عواهل أوروبا «أوجينى» إمبراطورة فرنسا، وفرنتر يوسف إمبراطور النمسا وملك المجر، وفريدريك فلهلم، ولى عهد التاج البروسيانى، وقرينته ابنة الملكة فكتوريا، وهنرى أمير هولندا والأميرة قرينته، ولويس أمير الهس، ودعا إسماعيل جمهورا غفيرا من رجال الأدب والعلم والفنون والتجارة الكبرى والاستغلال الفنى ومراسلى الجرائد الغربية المهمة كلها، على أن كثيرين ممن لم يشتهروا فى شىء، ولم تكن لهم حيثية ما على الإطلاق، تمكنوا من حشر أنفسهم بوسائل متعددة من الحصول على أوراق دعوة بأسمائهم، ويقال، إن عدد هؤلاء المتطفلين زاد على ثلاثة آلاف.
كان يوم «17 نوفمبر» مشهوداً، حسب وصف «الأيوبى»: «فلما بزغت شمسه وتناول الأقوام طعام الفطور إلا وسار «الإجل» النسر «بالإمبراطورة أوجينى من بورسعيد وأصحاب التيجان والأمراء»، وكان شاطئاً بحيرة التمساح غاصين بالأمم والجماهير والقبائل القادمة من تلقاء نفسها إلى مشاهدة الحفلات والتفرج عليها، أو المرسلة هناك بأمر من «إسماعيل» ليزيد منظرها بهجة، و«أنه أراد أن يرى ضيوفه نماذج من الأمم الخاضعة صولجانه وصورة صغيرة من عاداتها، فأصدر أوامره إلى جميع مشايخ العربان ومشايخ البلدان من الإسكندرية إلى أقاصى السودان بإرسال وفود من قبائلهم وسكان نواحيهم إلى الإسماعيلية فى مظاهر حياتهم اليومية، فازدحمت ضفاف البحيرة بخيم العربان و«عشش» الفلاحين وأكواخ الأمم السودانية التى كانت تؤوى مئات الألوف من البشر والأشخاص المختلفى الألوان، والشكل والملبس والنوم بأولادهم ونسائهم، وكانت تلك الأقوام كلها وهى محجوزة عن ضفاف الترعة بصف ممتد على طولها، تنتظر بفارغ الصبر ظهور البواخر المقلة للإمبراطورة والملوك».
هلت «أوجينى»، ويصفها «الأيوبى»: «بالرغم من سنى عمرها الثلاث والأربعين، كأنها إلهة الجمال والجلال» وتلا دخولها باقى الملوك والأمراء والعظماء والسفراء، وبعد أن انقضت ساعات النهار وجاءت الساعة السابعة مساء كان تناول العشاء على موائد فى رحبات القصر الذى بناه إسماعيل فى آخر لحظة على ضفاف البحيرة خصيصا لاستقبال ضيوفه، ويصفه الأيوبى: «كان فخما نشأ فى وسط مظال من السندس الزاهر، وباقات من الأشجار المزدهية بالرياحين والأزهار».
رقص الضيوف بعد العشاء وحسب الأيوبى: «اشترك فى الرقص أصحاب التيجان أنفسهم، ولم يكونوا أقل المشتركين فيه جدا ونشاطا، بل كانوا قدوة لغيرهم فى استمراء لذة تلك الساعات السريعة المرور، فأوجب ذلك منهم استغراب الأقوام الشرقيين المحيطين بالقصر والمظال لأنهم حتى تلك الليلة كانوا يعتقدون أن الرقص والقصف شأن الراقصات فقط والسكارى من الرجال، فما كادوا يصدقون أعينهم لما أبصروا أوجينى الامبراطورة العظيمة، وفرنتز يوسف الإمبراطور الخطير وباقى الأمراء والأميرات وخديوهم نفسه، الرجل الوقور، يرقصون ويمرحون كباقى المدعوين وأكثر، وأبصروا أن السن ذاتها لم تمنع ديلسيبس على اشتعال ناصيته شيبا من أخذ نصيبه من الرقص والملاهى الأخرى».
كان الأمير عبدالقادر الجزائرى حاضرا، لكنه «لم يرقص ولم يقصف، وبقى متفرجا فقط ملتحفا هيبته وجلاله».