"الحياة لا تُفهم إلا من خلال القصص التى نرويها عنها" هكذا قال الفيلسوف الفرنسى بول ريكور، ومن الأدب الاجتماعى تفرز الأحداث واقعيتها لتشكل ملامح الغربة والعيش فى سجون مرفهة محكمة الأقفال يطلق عليها عش الزوجية.
استطاعت الكاتبة ياسمين حسن، فى روايتها "ماريا"، الصادرة عن دار تويا، أن تستقصى الاحتياجات الدفينة للأنثى، وتنسج منها خيوطا واقعية نابضة بالحياة، من خلال تفاصيل حياة سيدة مصرية متزوجة من كهل عربى تسردها عن لسان البطلة لكن بكتابة واعية.
تبدأ الرواية بلحظة كتابة "ماريا" رسالة إلى صديقها تحاكيه فيها عن زواجها من رجل سعودى والانتقال للعيش معه فى المملكة دون التصريح بأسباب الزواج، ولماذا وافقت بمثل هذه الزيجة وكأنه نوع من دهاء الكاتبة لتجعل القارئ يستكشف البدايات بإحساسه من خلال الأحداث، كسرت ياسمين كل تابوهات الشكل فى البناء الروائى معتمدة على الرسائل كنوع من أشكال البناء.
يأتى البناء السردى لشخصيات الرواية، حيث تحتل الأنثى حيزًا كبيرًا، أضاءت الكاتبة من خلاله كشف خبايا كثيرة لعالم المرأة بكل تفاصيله، ركزت فيه على أكثر من أنثى بدءا بـ "عبير" التى تحب نفسها لدرجة الغيرة والكره لأخواتها و"ريم" الذى ابتلاها الله بمرض عقلى و"سمر" الجارة التى تحرقها نار الغيرة ناحية الحب، والزوجة العجوز الذى يرضيها زوجها على حساب زوجته الحسناء "ماريا"، صاحبة البوح الأكثر جرأة الذى نفتقده فى كثير من الروايات.
الحب فى الرواية إكسير حياة هواء تتنفسه البطلة من أجل التعايش فى مجتمع جاف عاطفيا، البطلة هى نبع العشق الدافئ، والحرمان العاطفى، والجسد المتوتر حتى وإن أشبعت حاجتها من رجل تكرهه ولكنها تننتفض وتبوح لرغباتها الدفينة باحثة عن الحب، مارية حبيسة سجن مرفهة يغلقه عليها زوجها بالأسابيع حتى تحرقة نار الجسد فيطرق عليها الباب طالبا حقه من الارتواء، ينصرف ويتركها لمكتبة ضخمة من الكتب القيمة حرصت على اقتنائها لتكون صديقة لها فى وحشة الغربة، تستنشق رائحة الكتب وتستمتع بطعم القهوة وهى تغوص فى دهاليز الأدب بين عقول المفكرين تستسلم لأفكار ذهب مؤلفيها وتتمرد تارة أخرى، حتى ظهر محمد ذلك الشاب المراهق الذى كسر حاجز الوحدة فشغفها حبا دون النظر عن فارق السن بينهما فاختلقت الكاتبة لغة حوارية بسيطة جدا قد يتهمها البعض بالعامية الركيكة ولكنها براعة فى خلق جو مواكب للعصر وهى اللهجة العامية فى واتس اب والفيس بوك وكأنها لعبت على فارق السن بينها وبين حبيبها المراهق صاحب الـ 17 ربيعا.
ولكن هل كل حب يستطيع أن يخلُب لبَّ ووجدان الأنثى؟ فكان لمارية ذو الخبرة الحياتية من خلال عقول المفكرين التى عرفتهم من مجلداتهم أن تقع فى حب مراهق هربا من رتابة نصف حياة، انتصرت ياسمين حسن لتجسيد البطلة فى صورة امرأة هشة فى مشاعرها تحرقها نار الحرمان حتى وإن كان غير جسدى لعبت بماريا وكأنها تحرك دمية بخيوط بين قلوب الرجال مرة تجعلها عاشقة لصديقها وإن كان الحب فى العلاقة كان أقرب من الصداقة وعلاقتها مع جارها المراهق وخياناتها لزوجها وإعجابها بيوسف وإن كان من باب إثبات الذات أمام جارتها سمر حتى وإن أتيح لها آخر لانجذبت إليه هنا تتفوق الكاتبة فى إبراز الاحتياجات الدفينة للأنثى الضعيفة تصارع الحياة بحثًا عن سعادة مفقودة
الجانب الأهم من الرواية يكمن فى "إنسانيتها" التى تراهن على الحب وتجعل منه حياة.. وفى قدرة الكتابة على جعل القارئ سريع التعلق بالأحداث والشخصيات تحب "ريم" وتكره "عبير" وتتعاطف أو لا تتعاطف مع "ماريا".. لكنه يتوارى بعيدا إن شاهد "الزوج الكهل" يغلق باب الشقة أو يلمح "محمد" مطوقا بخصر زوجته.. الرواية جديرة بالقراءة وإثبات وجود للكاتبة فى دنيا الرواية.