"ما الحياة إلا جوانب معنوية متعددة يتحكم فيها الإنسان برسم خيوطها ليشكل عالم أكثر سعادة بالتفكير والتحليل والابتكار لاختلاق نفسية سليمة" انطلاقا من هذه الجملة بنت الدكتورة رشا الجندى روايتها "حكمة" الصادرة عن "الدار" للنشر والتوزيع وتتبعت فيها أدق التفاصيل والموصلة إلى الأحاسيس والمشاعر الإنسانية دون فائض كلمات ولا أو مترادفات.
وقد كان لدراسة "رشا" لعلم النفس تأثيرا واضحا فى الرواية جعلها تعالج الشخصيات كأنها تنقذها من الاضطرابات، وتتفادى الصدمات النفسية، فرسمت لوحة كبيرة لشرائح المجتمع ومن خلالها أجادت تصحيح مسار النفس البشرية بمهارة.
يقوم السرد فى الرواية على مناجاة نفسية طويلة تعيشها البطلة "حكمة" من خلال استدعاء ذكريات الطفولة من أعلى هضبة جبل المقطم، والمناجاة هنا تشكل طبيعة علاقة البطلة بذاتها وبالآخر، إذ تصبح مثار جدل حول مدى هذه العلاقة وإشكالية تعقدها وبين شخصيات الرواية فتتذكر موت والدتها، وفشل والدها فى الصمود أمام غلاء المعيشة وفكرة سفره إلى الكويت من أجل توفير حياة أفضل لها وأخوها أحمد، انهيارها وانهمار البكاء عندما شاهدها عمها وهى تلعب مع الصبيان فى الشارع فى حين أنها كانت تلهث أمامه من أجل حضن دافئ، تراودها ذكرياتها عندما صدمت حين زارها صديق والدها وكأنه يطمئن على أحوالها فاغتنم فرصة وجودها بمفردها واغتصبها، إحساسها بالاغتراب زمانياً ومكانياً بعدم مصارحة والدها بالأحداث نظرا لعدم شعوره بالقلق تجاهها، اعتمدت على نفسها منذ طفولتها عندما تركها والدها مع جدتها العجوز ضعيفة السمع حين قالت لها "أنا مابعرفش فى الساعة يابنتى اضبتى مواعيد المدرسة أنت وأخوكى أنا ست كبيرة"، وكأنها حملت جبال الهموم على عاتقها إلى أن وصلت إلى وظيفة مرموقة بوزارة الخارجية، تدور الأحداث حول تفادى البطلة الصدمات ومعافاتها عبر تشابكها وتفاعلها مع شخصيات ساعدوها فى تصحيح مسارها، هنا ظهرت براعة الكاتبة فى تعلق القارئ بالأحداث وإن فاضت عينيه دمعا فى قراءة بعض المشاهد.
فالمشاهد السابقة تجسد ماضى حكمة فى مرحلة الطفولة، وهو ماضى "القسوة والتناقض والإهمال ماضٍ أفرزته الظروف الاجتماعية متمثلة فى قلة حيلة الأب وسفره وتركه لأولاده صغارا يتخبطون فى مجموعة من المحظورات الاجتماعية (العادات والتقاليـد) التى تعيشها العائلة.
وحكمة "شخصية محورية ذات كثافة سيكولوجية، تستقطب جميع مظاهر الصراع حولها سواء أكان صراعاً داخلياً أم خارجياً، وبالتالى تعد مفتاحاً أساسياً فى تحديد المضامين النفسية فى الرواية وكشف أيدوليجيات جديدة تثبت وجود علاقة متبادلة بين الأدب وعلم النفس.
الشق النفسى فى الرواية يكمن فى علاقة الشخوص فيما بينها "وكأنهم يراهنون على حياة أفضل أكثر سماحة وأشمل سعادة حتى وإن لم تكتمل فهم موقنون بأن القدر أقوى من الإرادة.. فالكاتبة جعلت القارئ سريع التتبع بالأحداث شغوف بمعرفة الشخصيات يحب "حكمة" ويعجب بـ"دانا" ويتعاطف مع "كوثر" ويشفق على "شوكت" ويلوم "أحمد" ويحتاط الحذر من "آدم" ويتعلم من "ميلر" ويعشق "يوسف" ويتخذه قدوة له، الرواية إضاءات فلسفية تأملية، قدمت فيها رشا الجندى للقارئ المعرفة مقرونة بالعمل والتطبيق، وعلاجا روحيا يساعد على تطهير النفس من خلال إضاءات تشع بين السطور فتستطيع من خلال قراءة الكلمات أن تكون أفضل سعادة وأكثر أملا.. الرواية جديرة بالقراءة وإثبات وجود للكاتبة فى دنيا الرواية.