رتب الفنان محمد فوزى سهرة فنية فى منزل أحد الأطباء المشهورين وقتها وهو الدكتور «زكى سويدان»، أحد عشاق أم كلثوم الكبار، واتفق مع الموسيقار الشاب بليغ حمدى على حضور السهرة، كان بليغ وقتئذ فى مراحله الفنية الأولى وجمعته بـ«فوزى» صداقة وطيدة، يقول عنها، الإعلامى وجدى الحكيم: «أيقن فوزى بفراسته أنه أمام موهبة فذة فى التلحين فقربه إليه واحتضنه على المستوى الفنى والإنسانى، ويضيف فى كتاب «بليغ حمدى- مذكرات شخصية وشهادات مثيرة لرفاق الرحلة» تأليف «أيمن الحكيم» عن «دار ميريت - القاهرة»: «محمد فوزى كان فنانًا أصيلًا فقلما تجد ملحنًا يحتضن ملحنًا، ولكن إيمانه بموهبة بليغ جعله ينسى الغيرة وكل نوازع النفس البشرية ويقف وراءه ويساعده، وكان فوزى من أصدقاء أم كلثوم المقربين رغم أنه لم يلحن لها».
لما جاء بليغ إلى السهرة، ووفقًا لرواية وجدى الحكيم: «أمسك فوزى بيده واتجه به ناحية أم كلثوم قائلًا فى حماس: «هاسمعك الليلة دى ملحن هايل هيكون له شأن فى السنوات القادمة»، يضيف الحكيم: «كان بليغ يعيش على طبيعته وسجيته، فجلس على الأرض كما اعتاد عندما يلحن وأمسك بالعود، فنظر الحاضرون إلى بعضهم فى استغراب «يعنى إيه الملحن اللى قاعد زى مقرئى القرآن ده» ونظر فوزى إلى أم كلثوم وهو يشير بيده بما معناه: «سيبوه على راحته»، وينقل «الحكيم» رواية بليغ له عن هذا اللقاء: «قال لى: ما أعرفش ليه لما مسكت العود وبدأت ضبط أوتاره ربنا ألهمنى أنى أغنى «حب إيه» رغم أنى لما رحت السهرة لم تكن فى بالى، وعندما انتهيت من غناء المذهب لقيت أم كلثوم قاعدة جانبى على الأرض وسط ذهول الحاضرين»، غنى بليغ على عوده: «حب إيه اللى أنت جاى تقول عليه/ أنت عارف أبله معنى الحب إيه لما تتكلم عليه/ أنت ما بينك وبين الحب دنيا/ دنيا ما تقولها ولا حتى فى خيالك».
وضعت هذه الليلة «بليغ» على «أول سلالم المجد» بتعبير وجدى الحكيم، فدخوله ضمن قائمة ملحنى «أم كلثوم» بأغنية «حب إيه» التى قدمتها «كوكب الشرق» فى «مثل هذا اليوم 1 ديسمبر 1960» جعله ضمن «الكبار» رغم أن عمره وقتئذ 29 عامًا فقط «مواليد 7 أكتوبر 1931»، وكان رصيده الفنى فى التلحين لحنين لعبدالحليم هما «تخونوه» و«خسارة» عام 1957، ولفايزة أحمد «تسلم لى عينيك الحلوين» عام 1959، ولشادية «أحبك قوى» و«مكسوفة منك» عام 1959.
هذه الألحان على قلتها كانت تنبئ بعبقرية موسيقية فذة يصفها الشاعر عبدالرحمن الأبنودى صديقه وشاعر عشرات الأغانى التى لحنها بقوله: «إذا أردت أن تتطلع إلى نبع موسيقى مصرى حقيقى متفجر دائم التفجر كما الينابيع والنوافير، فانظر إلى ألحان بليغ حمدى»، ويضيف فى كتاب «بليغ حمدى» لأيمن الحكيم: «كفنان أعطى خلال الـ30 عامًا الأخيرة من عمره للموسيقى المصرية تدفقها وقدرتها على الاستمرار والقيادة للموسيقى العربية».
اجتمعت عوامل كثيرة لتجعل من تعاون بليغ وأم كلثوم حدثًا لافتًا للأنظار وفريدًا، فصغر سنه بليغ كان لافتًا ويرى عمار الشريعى فى لقاء لى معه أنه «قرب أم كلثوم من الشباب»، ولا ينكر بليغ نفسه أن صغر سنه كان مثار دهشة، قائلًا: «فى أول بروفة تجمعنا لأغنية «حب إيه» ذهبت إلى فيلتها بالزمالك، دخلت على الموسيقيين وكنت شابًا صغيرًا فى العشرينيات وسلمت عليهم وظنوا فى بداية الأمر أننى أتيت من أجل تقديم لحن لإبراهيم خالد ابن شقيقها وأريد التحدث بهذا الشأن مع أم كلثوم، وبعد قليل أتت وقالت لى: «فلنبدأ يا ابنى، فين العود؟ ولمحت الدهشة على وجوه كل العازفين، ولكنهم كانوا جميعًا بعد ذلك من أكثر المشجعين لى طوال البروفات».
كان تفرد هذا التعاون فى أنه يأتى بعد أكثر من عشر سنوات لاحتكار الموسيقار الكبير رياض السنباطى لصوتها، فيما يعرف بالمرحلة «السنباطية» فى تاريخ أم كلثوم، كما جاء فى وقت لم يكن محمد عبدالوهاب قدم ألحانا «كانت أغنية أنت عمرى هى التعاون الأول عام 1964»، وأضافت كل هذه العوامل مزيدًا من الدهشة حول هذا التعاون الذى جمع «سيدة الغناء العربى» بـ«الشاب» الذى سيصبح فيما بعد من عباقرة الموسيقى العربية.