ليس مصادفة ألا يخلو تاريخ الشعر فى كل الدنيا من وجود الشاعر الصعلوك الذى يتمرد على أعراف المجتمع ويهزأ بتقاليده التى تكرس لأبوية السلطة وتسلط واستبداد الحكام ولعل نماذج الشنفرى والسليك ابن السلكة وتأبط شرا وعروة ابن الورد وأبو نواس وعبد الحميد الديب وأمل دنقل مازالت حاضرة وبقوة فى مخيلة الأجيال وإن اختلفت ملابسات وظروف وأشكال هذا التصعلك – لست فى حاجة أن أضع أبو النجوم فى مصاف هؤلاء النبلاء الذين لا يتكررون صفة ولا فنا ولا حضورا إنسانيا ،، كل شيء فى حياة أحمد فؤاد نجم كان يدفع به دفعًا نحو هذا التكوين العبقرى ،، اليتم والخروج للحياة من ملجأ يفرض على من يدخله تركيبةً معينةً ، ثم مواجهة الحياة بلا أى سند من أسرة أو عائل أو رقيب ، فى سن هى من أخطر سنوات العمر ، والتنقل بين أكثر من مهنة وبلد ، هذا إلى جانب مناخ اجتماعى وسياسى يتخلق فى رحم أمة تنهض من سبات عميق ، ما بالك وكل ذلك يصب فى عقل ووجدان موهبة فذة كموهبة نجم الذى لم يتلق تعليما نظاميا ولم يعش حياة طبيعية مما عمق لديه الإحساس بالتهميش الذى حوله نجم لطاقة إيجابية فى قطف الثمار المحرمة ومجابهة الاستبداد والتسلط بجملة شعرية بالغة الحدة قد تبدو هتافا سياسيا للوهلة الأولى لكنها بالتأمل تصبح بالغة الدلالة مشحونة بطاقة المخيلة الشعبية بكل ثرائها اللغوى والتراثي.
هذا الى جانب أنها ابنة التجربة الحية المغموسة فى تراب وعرق طبقات المجتمع الدنيا التى ينتمى لها نجم وهذا يفسر وبقوة فرادة وثراء تجربته التى لن تستطيع بأى حال من الأحوال أن تجد لها أبا فى العامية المصرية وإن تقاطعت فى بعض من تجلياتها مع مجايليه لاسيما الفذ فؤاد حداد الذى قابله نجم فى المعتقل عام 59 الأمر الذى لا يمكن التعويل عليه أيضا نظرا للاختلاف الجذرى بين التجربتين – حيث ظل حداد مخلصا لفكرة الفن بكامل قداستها وحول نجم الفن إلى رغيف خبز ساخن للمهشمين والمقهورين الذين أتى من بينهم وظل ملتصقا بهم حتى رحيله متمسكا بفكرة المثقف العضوى الذى يكتب قصيدته فى الصباح ويخرج فى المساء للدفاع عن قيثارته – من هنا كان حاضرا وبقوة فى متن الحركة الشعرية رغم الإقصاء والتعتيم الذى مارسته المؤسسة الثقافية والسياسية ضده باعتباره رقما صعبا لا يمكن تدجينه أو الاطمئنان إليه – كل ذلك أسهم فى تدويل قصيدته وذيوعها فى مصر والوطن العربى على أوتار عود الشيخ الثائر إمام عيسى الذى التقاه نجم فى المعتقل وعاش معه نفس ظروفه وكونا معا ثنائيا إبداعيا تخطى الأسلاك الشائكة التى فرضها السجن والسجان وأضحى نجم نجما اسما وصفة كما أصبح أيقونة ثورية لمعظم الحركات الثورية والحركات الاحتجاجية التى شهدتها مصر والوطن العربى حتى رحيله فى الثالث من ديسمبر الماضى وخروج درويشه من كافة طبقات المجتمع وراء جنازة جسده الذى عركته الحياة عاملا وفلاحا وعاطلا ومسجونا ومقهورا وشاعرا شعبيا كبيرا.