«عندما كان يفيق من غيبوبته، العام 1992، كان يردد شعرًا لأبى فراس الحمدانى، ثم يذهب إلى الغيبوبة من جديد، وهو كتب نعيه بيده، واشترط ألا ينشر هذا النعى إلا بعد دفنه، لذلك لم يمش فى جنازته إلا بضعة أفراد، والنعى الذى كتبه عبارة عن جملتين: «توفى أمس الكاتب الكبير يحيى حقى، من يقرأ هذا النعى يقرأ له الفاتحة».
هكذا يسجل الكاتب الروائى إبراهيم أصلان جانبا من الأيام الأخيره فى حياة مبدعنا العظيم، الذى رحل فى مثل هذا اليوم «9 ديسمبر 1992»، ويضيف «أصلان» فى كتابه «شىء من هذا القبيل» عن «دار الشروق القاهرة»: «رفض فى حياته أن ينشر مقالاته الأسبوعية التى يكتبها فى الجرائد الأكثر انتشارًا، وفضل اللجوء إلى الأركان شبه الخفية لنشرها، كان يمشى متمهلا وفى ذراعه المطوية حقيبة من الشباك مما تستخدمها ربات البيوت فى حمل الخضر والفاكهة، وقد ملأها بالقصص والقصائد والمقالات»، ويراه أصلان: «أحد النماذج المثلى للتربية، التى يجب أن يكون عليها الفنان ومن أكثر كتابنا إدراكا لوحدة الظاهرة الإبداعية».
كتب عن الناس الشعبيين «رغم لمسته الأرستقراطيته فى مسلكه» بتعبير «أصلان»، الذى يستخلص من ذلك: «العبرة ليست أبدا فى معرفة الناس، ولكن فى الإحساس بهم»، ويقودنا هذا إلى فهم ما حدث معه بعد تأليفه روايته المدهشة «قنديل أم هاشم» فى أربعينيات القرن الماضى ونجاحها الكبير، حين استدعاه أحمد حسانين باشا، رئيس الديوان الملكى للملك فاروق، ووفقًا للمقدمة، التى كتبها «محمد روميش» للسيرة الذاتية لحقى: «خليها على الله» عن «دار الهلال - القاهرة»: «ظن بطيب نيته أنه سيستمع إلى كلمة تحية وتقدير، فتأنق، وذهب، وهناك كان أحمد حسنين باشا واقفا بقامته المديدة، إلى جوار مكتبه، ولمح يحيى حقى على المكتب نسخة من «قنديل أم هاشم» وتحدث حسانين - غالبًا فى ضيق: «إيه ده يا يحيى مش لاقى غير الفقرا، تكتب عنهم، يا أخى شوف نجيب الريحانى عنده، الفقرا ياكلوا فجل، يتكرعوا تفاح».
انتهت المقابلة لتقول أشياء كثيرة يرصدها «روميش» فى إن حقى يكتب عن الفقراء، إلا أن القضية ليست هنا، فإن نجيب الريحانى أيضا يقدم الفقراء على مسرحه، الاختلاف أن يحيى حقى يكتب عن الفقراء بصدق، إنه لا يدلس على الفقراء، وما أزعج السلطات فى أعلى قمتها ممثلة فى رئيس الديوان الملكى، أن يحيى حقى يقول بأن للفقراء الحق فى حياة إنسانية كريمة، ولنقل إن للفقراء حقا فى ثروة بلدهم».
ولد يوم 7 يناير عام 1905 بحارة «الميضة» وراء مقام السيدة زينب بالقاهرة، ونشأ فى بيت كانت «الوالدة» شديدة التدين، مغرمة بقراءة القرآن الكريم، وكتب الحديث والسيرة النبوية، وكان الوالد قارئًا مغرمًا مفتونًا بأبى الطيب المتنبى، ولأخيه الأكبر، إبراهيم، مكتبة عربية وإنجليزية وعمه محمود طاهر حقى كاتبا، ومن هذه البيئة جاءت أول منابع المعرفة لأديبنا الكبير حتى صار واحدا من أبرز كتاب مصر فى القرن العشرين ومن شهود أحداثه السياسة والثقافية والفكرية ومشاركا فى بعضها، فهو ابن الحزب الوطنى، الذى أسسه مصطفى كامل، وأحد شباب ثورة 1919، ووكيل النائب العام فى الصعيد، ثم الدبلوماسى فى وزارة الخارجية، والمنخرط فى وظائف قيادية للثقافة المصرية مع ثورة 23 يوليو 1952.
وحين برعت موهبته فى فن الكتابة تميز بالجمع بين ثنائية «الفنان المفكر»: «مرة يغلب عليه الفنان المفكر داخله فيقدم القصة القصيرة والرواية وقصيدة النثر، ومرة أخرى يغلب الفنان المفكر داخله فيقدم اللوحة /القصة، واللوحة المقال، إلا أنه وهو فنان لا يستطيع أن يتخلص من المفكر داخله، ولعل هذا يفسر قلة الأحداث فى إبداعاته القصصية والروائية»، هكذا يرى «روميش» مجموع إنتاج «حقى» الإبداعى، الذى بدأه فى سن مبكرة.
شق لنفسه طريقًا فريدًا ومميزًا فى أسلوب الكتابة، وبالرغم من أنه جاء فى مرحلة تاريخية كانت تعطى للأساليب الزخرفية الأهمية الأكبر فى فن الكتابة، إلا أنه ثار عليها وفى «كناسة الدكان» يقول: «لست أخجل من القول بأنى منذ أمسكت بالقلم وأنا ممتلئ ثورة على الأساليب الزخرفية، متحمس أشد التحمس لاصطناع أسلوب جديد اسمه الأسلوب العلمى، الذى يهيم بالدقة والعمق والصدق»، ويسميه «حتمية اللفظ» ويعرفه بـ«وضع كل لفظ بدقة ليؤدى معنى معينا بحيث لا يمكنك أن تحذفه أو تضيف إليه لفظًا آخر أو تكتب لفظا بدلا من آخر».