سافرت الملكة نازلى والدة الملك فاروق، وبناتها الأميرات إلى فلسطين بقطار الظهر، وأعلنت الصحف المصرية أن هذا السفر تم فى «مثل هذا اليوم 11 ديسمبر 1942» لقضاء بضعة أيام للتريض، وكما يقول رشاد كامل فى كتابه «الملكة نازلى غرام وانتقام» «دار المنتدى- القاهرة» فإن الصحف كتبت الخبر واختتمته بالدعاء لعودة «جلالتها وصاحبات السمو الأميرات فى سابغ من الصحة وموفور من العافية»، ومضت الأيام ولم تعد نازلى وبناتها كما قالت الصحف، ولما طالت الغيبة بدأ الهمس والغمز واللمز والقيل والقال حول ما يحدث من نازلى وبناتها فى القدس.
هل سافرت «نازلى» للتريض حقا؟ يطرح «كامل» هذا السؤال مجيبا: لم يكن صحيحا ما قيل وقتها إن «نازلى» سافرت للتريض أو الفسحة أو حتى لتغيير الجو، فرائحة الحرب العالمية الثانية طالت «القدس» مثلما طالت عواصم الدنيا الكبرى، وامتلأت القدس بجنود وضباط إنجليز وكان لسان حالهم يقول: «كثير من الحرب، قليل من اللهو» وكانت نازلى وبناتها يرفعن شعار: «بل كثير من اللهو».
القصة فى عمومها وتفاصيلها تكشف عن محنة فاروق مع أمه، وتلك دراما كبيرة فى حياته، وحسب محمد التابعى فى كتابه «من أسرار الساسة والسياسة» «دار الشروق- القاهرة»: «طالت غيبة نازلى عن مصر، وبدأت الأخبار ترد إلى القصر، وكيف أن صاحبة الجلالة أمضت السهرة فى رقص متواصل مع بعض الضباط الإنجليز، وكنا فى زمن الحرب وكانت القدس مملوءة بالضباط الشبان الإنجليز، فلجأ فاروق إلى أحمد حسنين باشا «رئيس الديوان الملكى وزوج نازلى فيما بعد»، وطلب منه أن يسافر إلى القدس ويعود ومعه الملكة، لكن حسنين رفض أن يلبى نداء مولاه وينقذ الموقف، واعتذر بأسباب شتى، واقترح على الملك أن يعهد بهذه المهمة إلى النحاس باشا»، ويؤكد التابعى: «فوتح النحاس باشا فى الأمر»، وسر سرورا كبيرا وقال: «إنه يعد هذا التكليف من جانب الفاروق شرفا وثقة يعتز بهما مدى الحياة».
يتحدث «النحاس» عن هذه المهمة فى الجزء الثانى من مذكراته، ربع قرن من السياسة فى مصر- 1941 - 1952 «دراسة وتحقيق أحمد عز الدين «دار العصور الجديدة- القاهرة»، مشيرا إلى أن حسنين باشا طلبه فى التليفون وأبلغه أنه يريد مقابلته فى مسألة خطيرة جدا، ويصف «النحاس» حال «حسنين» وقت لقائهما: «كان على وجهه علامات غير عادية وفى عينيه نظرات مضطربة، واختليت به فقال إن جلالة الملك يقصدك فى أمر خطير عاجل لا يستطيع أحد أن يقضيه سواك، تعلم أن جلالة الملكة نازلى سافرت مع الأميرات إلى القدس للفسحة وتغيير الهواء بعيدا عن الغارات، وقد طال مكثها هناك فكلمها جلالته فى العودة فأبت، وقالت له: إنك كرهتنى فى مصر ولن أحضر إليها ثانية لا أنا ولا الأميرات وسنتركها لك لوحدك، وقد فكرنا من الذى يستطيع أن يؤثر عليها فلا ترفض رجاءه فلم نجد سواك».
استشار «النحاس» زملاءه من حزب الوفد فشجعوه على الموافقة، واقترحوا أن يصطحب معه زوجته «زينب الوكيل»، وسافر ومعه تشريفات الرياسة ومدير الصحافة ووصل إلى القدس ونزل فى فندق داوود قريبا من جناح الملكة، وفى اللقاء الذى جمعهم «النحاس وزوجته ونازلى» أطلعها رئيس الوزراء على الغرض الذى جاء من أجله وحسب مذكراته:«قالت بتأثر إنك تحرجنى فقد نويت ألا أعود إلى مصر فولدى الوحيد الذى كنت أرجوه من الدنيا واقع تحت تأثير شويكار «طليقة والده الملك فؤاد»، وعلى ماهر والمراغى «شيخ الأزهر»، ولابد أنك سمعت وعرفت كثيرا من الأشياء فلا داعى لذكرها ثانية، ولكن مجيئك والسيدة حرمك إلى القدس فى هذه الظروف من أجلى أضعف إصرارى، وثبط من عزمى، فأنا لا أستطيع أن أرفض لك ولا للسيدة حرمك طلبا».
اشترطت الملكة كى تعود أن يكون الملك فى استقبالها على محطة الوصول، فوعدها النحاس بذلك، ويذكر النحاس أن الملكة نادت على بناتها الأميرات، وقالت لهن: «الباشا والهانم حضرا لكى يقنعانى بأن أعود إلى مصر، وأنا لا أستطيع أن أرد له طلبا»، وبقى رئيس الوزراء عدة أيام للتجول فى القدس ومشاهدة آثارها، وعاد إلى مصر مسرورا مستريحا لنجاح مهمته لكنه فوجئ بتصميم الملك على أنه لن يقابل أمه، فهدده بإبلاغ الملكة، فتراجع وتحقق للملكة ما أرادت.