جلجل صوت المحامى مكرم عبيد أمام محكمة «جنايات مصر» فى مثل هذا اليوم «25 ديسمبر 1930» مدافعا عن المفكر والكاتب «عباس العقاد»: «نحن أمام قضية تمثل مأساة أمة تمثلت فى مأساة فرد، إذ الواقع أن هذه القضية التى تبدو فى الظاهر بين النيابة والأستاذ العقاد إنما هى فى الحقيقة بين الرجعية والدستور، أو هى بالأحرى بين مبدأ التأخر ومبدأ التقدم، أيا كان الشكل الذى قد يتخذه كل من هذين المبدأين، أو الاسم الذى يتسمى به فى مختلف الأزمنة والظروف، وما العقاد إلا خصم للرجعية عنيد انهال بضربات قتالية رأت أن لا قبل لها بها، فاعتزمت أن تنكل به قبل أن ينكل بها، ولما لم تقو على مجابهته وجها لوجه فرت إلى السدة الملكية، تتعلق بركابها، وتتسمح بأعتابها، ولم تستح أن تتخذ منها ستارا لعيوبها، فأسندت العيب للذات الملكية، والعيب كل العيب فيها».
كان «العقاد» يواجه المحاكمة بتهمة «العيب فى الذات الملكية»، وبدا الاتهام فى جلسة مجلس النواب التى قدم فيها مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومة استقالة حكومته يوم 17 يونيو 1930، ووقف «العقاد» بصفته نائبا، ومع حماس الجلسة قال: «ألا ليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس فى البلاد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته»، ووفقا لكتاب «عباس العقاد فى تاريخ الصحافة المصرية» للدكتور راسم محمد الجمال «الدار المصرية اللبنانية- القاهرة»: «قوبل هذا التهديد من العقاد للملك من جانب النواب بتصفيق حاد متواصل، جعل أحمد ماهر، رئيس المجلس، يدرك خطورة الأمر، فاعترض مضطربا: ما هذا يا أستاذ عباس؟ أنا لا أسمح بمثل هذا الكلام، ولكن العقاد أصر على موقفه»، وكرر قوله.
انفجر المشهد كله لإقدام الملك فؤاد على تعطيل الحياة النيابية وإلغاء دستور 1923، كتحدٍّ لمجلس النواب الوفدى والدستور الذى يصارع الملك عليه، وحسب «راسم الجمال»: «فى اليوم التالى لما حدث فى المجلس، بدأ العقاد حملة عنيفة على الملك وحاشيته لم تتضمن فقط عيبا فى الملك «فؤاد» وإنما تضمنت فوق ذلك، تحريضا على الثورة وقلب نظام الحكم والتخلص من أسرة محمد على كلها»، وبدأ نشر هذه المقالات فى التاسع من سبتمبر 1930 بجريدة «المؤيد الجديد» وانتهى منها فى 29 سبتمبر، واستدعته النيابة للتحقيق يوم 14 أكتوبر أى قبل أسبوع من حل البرلمان فى 22 أكتوبر وسقوط الحصانة البرلمانية عنه، كما استدعت محمود فهمى الخضرى وعدته مسؤولا بصفته المدير المسؤول لصحيفة «المؤيد الجديد».
حضر التحقيق عدد من كبار المحامين الوفديين منهم، محمد نجيب الغرابلى، محمد صبرى أبوعلم، محمود سليمان الغنام، وأمرت النيابة باعتقال «العقاد»، واتهامه بـ«العيب فى الذات الملكية»، وتعنتت الحكومة مع «العقاد»، فاعتقلته فى «سجن مصر» بالرغم من الاتفاق بين نقابة الصحفيين قبل حلها، وبين وزارتى الحقانية والداخلية على عدم اعتقال الصحفى قبل محاكمته.
أحيلت القضية إلى محكمة «جنايات مصر» منذ الثامن من ديسمبر 1930، وبدأت النيابة مرافعتها فى الجلسة المنعقدة فى «مثل هذا اليوم 25 ديسمبر 1930»، وقالت فيها، إن العقاد بث فكرة خطيرة فى البلاد وهى أن جلالة الملك يناهض الأمة فى أمانيها، وتخلل هذه المقالات عبارات وألفاظ كلها عيب فى الذات الملكية وطعن فى صاحب العرش»، ويذكر «راسم الجمال» أن النيابة بذلت جهدها فى إثبات أن العقاد كان يقصد الملك صراحة وأنه لم يذكر اسمه صراحة، بل استعمل فى بيان غرضه وتحديد مقصده عبارة الرجعية».
لام مكرم عبيد النيابة لأنها رفعت القضية على العقاد الذى لم يصرح مطلقا فى مقالاته باسم الملك، بالرغم من أن المادة 156 من قانون العقوبات التى طلبت النيابة تطبيقها على العقاد، يفهم منها أنه يجب أن يكون العيب صريحا ومباشرا وموجها إلى ذات الملك لا غمزا ولا لمزا، ولا بطريق مباشر، ونفى «عبيد» فى دفاعه أن يكون المقصود بالرجعية هو الملك، واستمد ذلك من نصوص الدستور، إذ قال: «ولكن ما الرجعية التى عناها العقاد؟ هى كل فكرة أو هيئة أو شخص مسؤول عن العبث بالدستور أو بحريات البلاد فى أى زمن من الأزمان».
وفى يوم 31 ديسمبر 1930 أصدرت المحكمة حكمها بحبس المتهم الأول محمود فهمى الخضرى ستة أشهر حبسا بسيطا، والمتهم الثانى عباس العقاد تسعة أشهر حبسا بسيطا.