كانت الساعة السادسة والنصف من مساء السبت 5 يناير «مثل هذا اليوم» عام 1946 حين وقفت سيارة أجرة أمام المنزل رقم 14 بشار عدلى بوسط القاهرة، ونزل منها أمين عثمان باشا، وزير المالية السابق بوزارة حزب الوفد، وحسب كتاب «المحاكمة الكبرى فى قضية الاغتيالات السياسية» عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة» يذكر مؤلفه «لطفى عثمان»، أن «عثمان» ولج باب العمارة فى طريقه إلى نادى «الرابطة المصرية البريطانية» التى يرأسها، وبرز شخص كان مترصداً له بالقرب من الباب الخارجى للعمارة، وأطلق عياراً نارياً عليه فسقط يتضرج فى دمه، ثم خرج القاتل وسار فى الشارع ويداه فى جيوبه، ولم يلبث أن شعر بالناس يتجهون نحوه فأسرع الخطى قليلا، ثم أخذ يعدو متجها نحو ميدان الأوبرا «وسط القاهرة»، وشهر مسدسه فى يمينه وظل يطلقه هنا وهناك.أوشك مطاردوه أن يلحقوا به، فألقى عليهم قنبلة يدوية فانفجرت وأصابت شظاياها بعضهم، مما أجبر الباقين على الكف عن تعقبه، وهكذا اختفى القاتل، ووفقاً لـ«لطفى عثمان»: «لم يستغرق كل هذا القتل والمطاردة وإلقاء القنبلة أكثر من عشر دقائق»، وأجريت له عملية استخراج للرصاص، لكنه توفى فى الساعة الرابعة صباح يوم 6 يناير.
يعطى محمد إبراهيم كامل، وزير خارجية مصر المستقيل احتجاجا على توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل والمتهم فى هذه القضية، صورة مختصرة عن أمين عثمان فى مذكراته «السلام الضائع» عن «كتاب الأهالى - القاهرة»: «كان معروفاً بصلاته الوثيقة والمريبة بالإنجليز، وكان كثيرا ما يدلى بخطب وتصريحات تمثل استفزازا صارخا لمشاعر المصريين، ومنها خطبته الشهيرة التى قال فيها «إن إنجلترا متزوجة بمصر زواجاً كاثوليكياً لا طلاق فيه»، كما كان شائعاً أنه الرأس المدبر لحادث «4 فبراير 1942» عن «قيام السفير البريطانى اللورد كيلرن بإجبار الملك فاروق على تكليف مصطفى النحاس باشا بتشكيل الحكومة».
بعد الحادث أعلنت الحكومة عن مكافأة خمسة آلاف جنيه لمن يدلى بمعلومات عن الجانى، ويؤكد «كامل» أن الصدفة هى التى قادت إلى التوصل للمتهم وهو حسين توفيق «ابن خالة كامل» حيث كان والده «توفيق باشا أحمد» وكيلا لوزارة المواصلات، وكان مشهوراً بالشدة والصرامة، وحدث أن طرد أحد موظفى وزارته لسوء سلوكه «عبدالعزيز الشافعى أفندى»، وكان هذا الموظف يعرف حسين توفيق بصفته ابن رئيسه ويعرف عنه عداوته وكراهيته الشديدة للإنجليز، وانضم هذا الموظف إلى الرابطة المصرية البريطانية، أملاً فى الوصول، وشاءت الظروف أن يلتقى حسين توفيق قبل الحادث بأيام واقفاً أمام مقر الرابطة بشارع عدلى، حيث كان يدرس مكان العملية، فحياه هذا الموظف وتبادل معه حديثا قصيرا انصرف بعده حسين توفيق.
وفور الإعلان عن مكافأة الخمسة آلاف جنيه، توجه الموظف إلى البوليس وأبلغ أن القاتل هو حسين توفيق، فتوجه ضباط الأمن السياسى إلى الفيللا التى يقيم فيها بضاحية «هليوبوليس» فى الساعة التاسعة والنصف، أى بعد الحادث بثلاث ساعات ونصف، وكانت الأسرة تجلس على مائدة العشاء، وبتفتيش الفيللا تم العثور على أسلحة مخبأة ومفكرة يوميات تحتوى على عبارات عدائية ضد الإنجليز وأعوانهم، وعنوان الرابطة المصرية البريطانية.
تم القبض على «حسين» وشقيقه «سعيد»، وجىء بهما إلى النيابة، ويذكر «لطفى عثمان»، أنهما أنكرا فى تلك الليلة ارتكابهما للجريمة، وقال حسين، إنه لم يذهب إلى دار الرابطة إلا مرة واحدة فقط ليأخذ فكرة عنها وعن مبادئها، ولما سئل عن كيف بدأ حياته السياسية، أجاب: «أعجبت فى أول الأمر بالحزب الوطنى، وحضرت بعض اجتماعاته فى مكتب الأستاذ فتحى رضوان المحامى، وأحيانا فى مكتب على منصور، وكنت أتردد على الأحزاب الأخرى كحزب مصر الفتاة وغيره لآخذ فكرة عنها».
تواصلت التحقيقات حتى اعترف «توفيق» فيها بقتل «عثمان» لأسباب وطنية، وكشف عن أعضاء الجماعة السرية التى كونها لاغتيال الزعماء المصريين المتعاونين مع الإنجليز، ووفقاً لـ«لطفى عثمان»، فإن عدد أعضاء الجمعية المتهمين فى القضية بلغ 26 شخصاً، بينهم أنور السادات وكان أكبرهم سنا «27 سنة» ومحمد إبراهيم كامل وكان يناهز العشرين عاماً وكان يدرس الحقوق، وتراوحت أعمار الباقين بين 16 عاماً و24 عاماً، وجميعهم كانوا طلابا فى المدارس الثانوية والجامعة باستثناء «عمر حسين أبو على، 24 عاما» المدرس بمدرسة «الأمير عمر طوسون الابتدائية الأهلية» بشبرا، و«أنور فائق جرجس، 22 عاماً» تاجر فى أجهزة الراديو ويقوم بإصلاحها.x