لم أظن فى تلك الليلة أن "محمود" صادق فى الفراق، فدائماً كنا نبتعد ثم نعود بدون عتاب، إلا هذه المرة فالوداع كان نهائياً.
- كيف تقارنى دراسة الهندسة هنا بألمانيا.. الهجرة أكبر من كل أحلامى، أرجوك يا مريم.. افهمينى
- أمى يا محمود، اتركها لمن؟
- أختك موجودة
- لا أحد يرعاها مثلى.. أبى توفى وتحملت هى العبء، كيف اتركها فى عجزها؟
- عندك حق.. لكن يجوز أن تتركينى
استفحل الصمت العاجز بيننا حتى كسره محمود بجرأة :
- أنا هاسافر يا مريم، ليست الهجرة شىء يسمح بالتفريط فيه وخصوصاً لمن فى مثل حالنا.
- لسنا فقراء يا محمود، نستطيع العيش هنا حياة مقبولة.
- مع الوقت ستكون مستحيلة، آسف يا مريم، لن أقبل مثلك بوظيفة روتينية تقضى على كل جميل بداخلى، حتى أنت لن تتحملينى وقتها.
انتظرته كثيراً ولم يعد ففى كل يوم عند خروجى من باب الشركة التى أعمل بها أتوقع مجيئه كما كان يفعل فى السابق، عندما كان ينتظرنى بابتسامته الطفولية معتذراً بها عن الخصام فأولد أنا من جديد.
طالت المدة ثلاث سنوات حتى مات الانتظار، بعد أن علمت أنه تزوج وأنجب، وعرفت أيضاً أنه ليس سعيداً لكن ما الفائدة، وتوفت أمى بعدها بقليل لأعيش شبح الفراق مرتان.
( 2)
انتقلت للعيش مع أختى إيمان وزوجها وابنتهما "نور" ذى العشرة أعوام وكانت روح جذابة تبعث الحياة لكل صامت بالمنزل، عوضتنى كثيراً عن مشاعر الحب والحنين التى افتقدتها.
أيام عادية ومتماثلة قضيتها فى بيت إيمان، الأعوام تمر سريعا تنادى بعضها، حتى اقتربت من الخامسة والثلاثين فى غفوة منى، تعددت زيجات الأقارب والأصدقاء وحياتى راكدة، إحساس مريب أن تشعر بأنك سقطت سهواً ولن يبحث عنك أحد، فصرت أسترجع الماضى وكأنه الكنز المفقود.
لم تستمر الحياة الراكدة طويلاً، فقد تغير شىء بالمنزل الصامت الأسبوع الماضى، تمت خطبة نور من شاب فى مثل عمرها، صارت نور الصغيرة عروساً! دائماً تسعدنى فرحتها، فهل ستصير الأمور كذلك فى هذه المرة، هل أستطيع تهنئتها بحرارة دون أن أخفى شيئاً، لم أكن لأكره الفرح لأى من البشر فكيف بنور؟ هل تغير شىء بى مؤخراً؟
صار المنزل الصامت يدب بالحركة فتناوبت عليه زيارات الأقارب والأصدقاء والجيران، لكن ثمة حالة غير عادية تنال الجميع فكلهم مرتبكون ويتهامسون وينظرون إلى كثيراً، كأن ملامحى تغيرت فجأة، بدأت أشعر بالريبة وحاولت التخفى عن عيونهم، سبعة أيام وأنا أشعر للمرة الوحيدة أننى متطفلة على بيت إيمان، متطفلة على المتواجدين، متطفلة على الحياة، فقلت لنفسى: ليس لى مكان بين السعداء.
فآثرت الهروب إلى داخلى لكن لم تساندنى الذكريات فى هذه المرة، فالصخب يشوش الذهن بشراسة، فأجرب التلصص إلى الغد بتوقع رجل المستقبل وأتذكر المرات التى رفضت فيها الاستمرار مع الرجل غير المناسب الذى حتماً سيكون مناسباً جداً فى الليلة القادمة "ليلة العرس"، التى صرت أخشاها مثل يوم الحساب.
ذهبت أنا و"نور" إلى صالون التجميل كى تستعد لحفل الزفاف، لم تكن "نور" العروس الوحيدة فكان بجوارها ثلاثة مثلها، ويزخر المكان بالنساء وأصوات الضحك والغناء والأحاديث المتنوعة عن خبيرة التجميل ومهارتها فى التزيين، والتغزل فى نجمات الليلة، والتلميحات الرقيقة عن حياتهم المقبلة لم أحاول اقتسام الحديث بينهن، جلست صامتة ابتسم لوجه نور الجميل فى المرآة وأتابع خبيرة التجميل وهى تعبث بالوجه الطفولى لتنزع عنه براءته شيئاً فشيئاً حتى أصبح جميلاً حقاً، فأرى "نور" امرأة مكتملة للمرة الأولى.
بعد عدة ساعات خرجت العروس واستقبلنا الجميع بالموسيقى الصاخبة والزغاريد مثبتين نظرهم على العروس الحسناء، وأنا خلفها أرفع فستانها الطويل عن الأرض، ومع هذا الصخب سمعت أصوات هامسة وأكثر من يد تربت على كتفى بهدوء، فأيقنت أنها تخصنى وأنا أنحنى للفستان الأبيض "عقبالك يا مريم"، فانحنيت أكثر وأكثر هوت بى أصواتهم إلى قاع الأرض دون رحمة، حاولت الوقوف ثانياً لأساعد العروس، وبعد وصولنا قاعة الحفل قررت الانسحاب، فقلت لنفسى أن المكان يزخر بالنساء المكتملات اللاتى يستطعن مساعدتها، فجلست على طاولة خالية أترقب المشهد عن بعد لأننى ظننت أن الجميع اليوم سيهتمون بنجمى الحفل.
(3)
لم يجر الأمر كما تمنيت، فتناوب الأقارب والأصدقاء على طاولتى يحاولون التلصص إلى كيانى ليدركون ما أشعر به اليوم، وإلى أى درجة وصل احتراق الأحلام والأمنيات المرهونة بداخلى منذ سنوات، يقتلهم الفضول فالليلة هى الفرصة الفريدة للدخول إلى عالمى فأيقنت أن هروبى منهم السنوات الفائتة سيسدد كاملاً الليلة، أريد الذهاب إلى الحمام لكن سيظنون أننى أحاول الهروب، سأتحملهم بعض الوقت.
يزعجنى حديث المتطفلين وهمساتهم، فقلت لنفسي: لم يساندنى جمالى وأناقتى فى هذه الليلة المريبة، أشعر أن مقعدى ينخفض وجسمى يتضاءل، يتحدثون عن أزواجهم وأولادهم كثيراً.. أحاول ألا أهتم، تتزايد أحجامهم ضخامة وفحولة اقتربوا من التوحش، أتجاهل التساؤلات الماكرة.. ترتفع مقاعدهم بصورة مخيفة.. لا أهتم، يشعرون أنهم ملكوا العالم.. لا أهتم.. أٌقاوم رغبتى فى الذهاب إلى الحمام ..نظراتهم شامتة فليس لدى أطفال.. لكننى مازلت جميلة، هم أيضاً منزعجون منى، مازلت أقاوم.
الوقت طال لساعات وأيام وربما أعوام، فقلت لنفسى: متى سينتهى الحفل؟ أحاول نزع رأسى لأعلى لأجدد الهواء الساخن وأنظر إلى وجوه جديدة لا تعرفنى فهالنى رجل سمين على مشارف الخمسين يجلس فى الطاولة المجاورة يديم النظر إلى بجرأة مشمئزة، ازداد الهواء سخونة .
الرجل السمين يقترب، جلس بجوارى وفجأة أصبحنا وحيدين على الطاولة الملعونة، تلفت حولى رأيت العيون تحاصرنا والهمسات تتكاثر، يبدو أن أمراً ما يدبر لى، ولكن ماذا يريدون منى؟ ماذا يريدون من بقايا أنثى، وروح أرهقها الاغتراب.. لم أهتم بثرثرة الرجل.. تزعجنى همسات المتطفلين، يتحدث عن نفسه كثيراً.. أرمل ولديه ثلاثة أبناء، ما شأنى أنا بذلك، يريد الزواج من امراة جميلة ترعى أولاده .. لا أهتم .. مازلت أقاوم، الرغبة فى دخول الحمام تزداد.
انتهى الحفل وذهب المدعوون بجوار العروسين الشابين تنادينى إيمان بقوة كى أرافق العروس حتى خروجها من القاعة، لكن تخذلنى قدماى، لا أستطيع الوقوف خلفها مرة أخرى فالإضاءة هناك أقوى والهمسات صارخة "عقبالك يا مريم" وفى خضم حيرتى وجدت الرجل الخمسينى يمسك بيدى ويحاول جذبى نحوه وسط الزحام، شعرت ببرودة واغتراب، تنادينى إيمان، يجذبنى الرجل بقوة، يحاصرنى المتطفلون والنساء المكتملات فماذا سأفعل؟ لا أستطيع المقاومة، الرغبة تزداد والحصار يضيق، وصوت إيمان يعلو أكثر من اللازم، قوتى تحتضر، والرجل يضغط بقوة، استطاع جذبى نحوه، إرادتى تنكسر.
لم أستطع التحكم سكت الجميع واختفى الصخب، لم يعد فستانى أنيقا، وتحولت إليه العيون تنهشه بشراسة، اختلط العطف بالشماتة، التصقت بالرجل وأمسكت يديه بقناعة ومشينا خطواتنا بحماس حتى أتوارى بفستانى عن الجميع، حتى أتلاشى السقوط مرة أخرى.