على بداية الخط وُضع. أخبروه بلهجة آمرة أنه يمكنه التحرك فوق الخط الأبيض فقط. لا خطوة لليمين ولا خطوة لليسار. فقط عليه الالتزام بحدود الخط، والتحرك على طوله بحرية إلى الأمام. هذا هو عالمه، عرض هذا الخط وطوله اللانهائى، وما دون ذلك يعرضه للهلاك الآنى. والآن، عليك الالتزام بحدود الخط الأبيض.
فى أولى خطواته تعثر، وواجهته مشكلة أن يضبط خطواته وهذا الخط الذى يضيق فى أحيان كثيرة، كما أن وجود المراقبين خلفه كان يربكه أحياناً، لكنه مع مرور الوقت كان قد اعتاد هذه المشية البهلوانية، بل قد كثرت الأحيان التى يستخدم فيها يديه ليمشى كالحيوانات على أربع ليضبط خطواته أكثر عندما يضيق عليه الخط. وبمرور المزيد من الوقت نسى أمر المراقبين - الذى كان قد بعد عنهم بمسافة ليست صغيرة - وتركز كل اهتمامه فى كيفية مواصلة المسير دون أن يهلك أو يفقد طرفا من أطرافه إذا تخطت حدود الخط.
2
فى أحد الأيام، وأثناء مسيرته المعتادة، فوجئ بوصوله إلى نهاية الخط الأبيض، كاد قلبه أن يتوقف وهو يخطوه بقدمه دون أن يدرى إلى خارج حدود الخط المنتهى قبل أن يوقفها فى أخر اللحظات.
وقف مذهولاً طويلاً حتى أحس أنه بداخل حلم مزعج، لا.. لا بل أنه كابوس مرعب، بل إنه أسوأ كابوس ممكن أن يتعرض له والأسوأ منه هو أن يكون ذاك الكابوس حقيقة. أحس بالخدر يتسرب إلى أنحاء جسده وهو مستغرق فى ذهوله حتى كاد أن يسقط خارج حدود الخط ويهلك، إنه الهلاك، قفزت إلى رأسه هذه الفكرة مرة أخرى فأصابه الهلع وبدأت أعصابه فى الانفلات، كيف عليه أن يكمل مسيرته الآن؟ هذا هو السؤال.
أول ما وثب إلى رأسه من أفكار كان الرجوع إلى الخلف، لكنه استبعد هذه الفكرة تماماً، لن يرجع كل هذه المسافة خائباً، عليه مواصلة المسير، كانت مسيرته قد بدأت منذ مدة وعليه أن ينهيها، بالتأكيد هو أقرب لنهاية الرحلة الآن لولا هذا الخطأ الذى أدى إلى إنقطاع الخط، كما أنه لا يعرف ردة فعل المراقبين إذا عاد إليهم. وثانى الأفكار كان الانتظار، ربما يظهر الخط فى أى وقت، لكن وقتاً كثيراً كان قد مر بالفعل دون أن يظهر أى شىء.
3
فى البدء أخرج أطراف أصابعه بحذر، لكن شيئاً لم يحدث. تجرأ أكثر فأخرج يداً بأكملها ولم يحدث شئ أيضاً. كان الشك قد تسلل إليه حتى تملكه، لماذا لم يمت فى الحال؟، لماذا لم تبتر أصابعه أو يده؟ هل كان كل هذا مجرد خدعة سخيفة؟. وشهدت اللحظات التالية إخراج جسده بالكامل خارج حدود الخط، لكن ثمالة من خوف فى نفسه جعلته يبقى على رأسه فقط داخل حدود الخط. وجلس هكذا ينتظر.
4
حين مر الوقت دون أن يحمل أى جديد، أى هلاك، أى بتر للأطراف أو حتى آلام طفيفة بالجسد، قرر أخيراً أن يرفع رأسه لتخرج خارج حدود الخط للمرة الأولى.
وسقط فى لحظات ذهول جديدة، وأحس بأنه داخل حلم مرة أخرى، لكن هذه المرة كان الحلم محبباً إلى النفس. وأفاق من ذهوله على حركة جسده العنيفة اللا إرادية فى كل الأنحاء وكأنه يحتفل بتحرره أخيراً من حدود الخط وقيوده. وسرعان ما تحولت الحركة العشوائية للجسد لرقص منضبط. ثم توقف وواجه الخط وبدأ فى إخراج لسانه له والتلويح له بإشارات استفزازية قبل أن يقوم بالقفز من فوقه ويعبره من جهة إلى أخرى عدة مرات.
5
ربما هى رهبة المجهول، أو بقايا من خوف غير مبرر من عقاب. وربما هو الإحساس الباطنى بالذنب، خاصة بعدما أهان الخط. وربما جميعهم؛ هم ما قد جعلوا مسيرته خارج حدود الخط لا تستمر طويلاً. فبعد أن هدأت ثورته واحتفالاته حان وقت مواصلة السير، لكنه لم يبتعد كثيراً عن الخط بل ظل حبيس المنطقة المحيطة به، فلأول مرة يجد نفسه مجبر على اختيار طرقه بنفسه وهو المعتاد على المشى فوق خط قد أعد له سلفاً، فكان يتحرك فى كل الاتجاهات عبثاً دون وجهة.
6
أصابع طويلة بيضاء، لا يعرف لها استخدام. العديد منها كان يملأ جيوبه التى كان يستكشفها لأول مرة. العديد والعديد من الأصابع الطويلة البيضاء. ربما وضعها له المراقبون فى بداية الرحلة، لكن لماذا؟، وما فائدتها؟. وسقط أحدهم من يده على الأرض لينكسر إلى نصفين ويترك على الأرض آثار خربشات بيضاء ومسحوق أبيض نتج عن التكسر. وثمة فكرة بدأت فى التكون داخل عقله الآن. فانحنى إلى الأرض وأمسك بالأصبع المكسور ليخط به على الأرض. واختلجت مشاعره بأحاسيس مختلفة وهو يرى تكون خط أبيض نتيجة ملامسة الأصبع للأرض وحكه بها. إذا كان معه الحل منذ بدء المشكلة.
وعما قليل سينزل به العقاب الذى يستحق. عقاب إهانة الخط والخروج عن حدوده. وربما كان المراقبون يشاهدون كل هذا الآن من مكان ما. وقتل الخوف بداخله أى أمل فى أن يكون كل هذا مجرد خدعة، وترك حريته خلفه وإندفع راكضاً نحو الخط الذى لم يكن قد ابتعد عنه كثيراً، وما أن وصل له حتى بدأ فى ضبط وقفته عليه لتناسب حدود الخط، تماماً كما كان يفعل قبل أن يخرج، وأمال بجسده ناحية الأرض وأمسك الأصبع الأبيض وبدأ فى عمله.
كان يقوم بإكمال الخط الأبيض والسير عليه.