يقف العالم العربى ومفكروه، فى كل الأحيان، موقفًا متحيرًا من النهضة الفكرية والعلمية فى الغرب، فلا هم بقادرين على المضى خلفه، ولا هم بمستطيعين الاستغناء عنه وصنع أفكارهم الخاصة دون اتباع ما انتهى إليه مفكرو البلاد الباردة من نظريات وأفكار فى طريق الحداثة.
فبين اتباع الغرب أو النأى عنه والنظر للداخل، يعيش مفكرو الحداثة العربية على الدوام فى مُعْضِلة صعبة، فلم ينجزوا أفكارهم الخاصة، ولم يبدأوا من النظرية الغربية وأضافوا لها، بل لم ينقلوها نقلًا صحيحًا وفهموها فى سياقاتها فهمًا مفيدًا، وهذا ما يرصده الناقد والباحث مدحت صفوت فى كتابه "السلطة والمصلحة.. استراتجيات التفكيك والخطاب العربى" الصادر مؤخرًا عن الهيئة العامة للكتاب.
ففى كتابه الجامع بين العمق من جانب، والمتعة وسهولة إيصال الأفكار بعيدًا عن اللوغريتمات النقدية من جانب آخر، يتتبع صفوت تلقى المفكرين العرب لإحدى أكثر الاستراتيجيات النقدية إشكالية فى الغرب، وهى استراتيجية التفكيك، فما بالك بتعامل العرب الناقلين والفاهمين لها!
ويخوض الكتاب رحلة معرفية عميقة، نتوقف أمام إحدى محطاتها، وهى "نقد التفكيك"، وبعد انتهائه من عرض ما يتعلق بالتفكيك فى القارة الأوروبية وأمريكا، يعود الباحث أدراجه إلى وطنه العربى، ويستقصى جهود رجال الفكر ونقاد الأمَّة فى ترجمة الاستراتيجية "الغامضة"، والأخطاء التى وقعوا فيها. ومن النقاد العرب الذين استعدوا التفكيك واستخفوا به، المفكر عبد الوهاب المسيرى.
ويبدأ الناقد الشاب مسيرة محاكماته لتلقى المفكرين العرب للتكفيك بـ"عبد العزيز حمودة"، وينظر إليه فى ضوء نظرته للمشروعين الحداثى وما بعد الحداثى الغربيين بأنهما "مؤامرة على العرب وتراثهم" وبأن المخابرات الغربية تقف خلفهما وأنهما محض نتاج للممارسات الغربية فى الشرق.
ينتقل مدحت صفوت بعد ذلك لمهاجمة عبد الوهاب المسيرى للتفكيك، فى إطار وقوع "ما بعد الحداثة" فى أطروحته لـ"العلمانية الشاملة"، ويصل به الحال لاتهام جاك دريدا بأن أصوله اليهودية تقف خلف أفكاره، فهو حسبه "المفكر فى أمور لا يمكن التفكير فيه" مثل القضاء على النصوص الأصلية المقدسة الثابوتية، ومثلما فعل "المسيرى" مع دريدا فعل "حمودة" الذى وصفه بـ"خاقان التفكيك الأكبر"!!
ويتوقف المؤلف أمام تناقضات المسيرى الذى أسهب فى تأثير اليهودية على بلورة دريدا للتفكيك، وربطه بين الاستراتيجية والقبالاة "التصوف اليهودى" ليعود مشددا على أنه من عدم الممكن فهم فلسفة دريدا إلا فى سياق تاريخ الفلسفة الغربية، ورغم وجود أفكار تفكيكية وما بعد حداثية فى مدارس التفسير اليهودية، فإنه يظل مفكرًا غربيًا بالدرجة الأولى، ولا تشكل يهوديته سوى عنصر مساعد فى تصعيد تفكيكيته!!
وفسّر صفوت التناقض السابق عبر شقين، الأول: يتمثل فى أن مقدمات المسيرى أُنتجت من خلال رؤيته "الصراعية" بين الشرق والغرب على أقل تقدير، ومن فكرة "التأثير التلمودى" التى استنبطها من بعض الممارسات السياسية للرموز الفكرية فى الدولة الصهيونية، ولم يكتفِ المسيرى بهؤلاء المفكريين، فأمد خط استنباطه ليحيط بجلّ الغربيين، ومن ثم تمّت عملية تأطيرهم وتنميطهم، وتقديمهم عبر أشكال نموذجية ليست مثالية بالقطع. أما الشق الآخر فيتمثل فى خضوع المسيرى وتسليمه برؤية الفلاسفة الغربيين لدريدا والتفكيك، حتى الذين اختلفوا معه، والذين يرون دريدا جزءًا رئيسيًا من الفلسفة الغربية، وحلقة لا غنى عنها فى سلسلة حلقات التطور الفلسفى والنقدى الغربيين. وربما أراد المسيرى، أن يستفيد من التناقض فى خطابه فى نقد "الأثر" التلمودى واليهودى من جانب، ونقد الخطاب الفلسفى الغربى بأكمله، باعتبار التفكيك جزءًا من سياق ذلك الخطاب، وبالتالى يسدد، المسيرى، طعنتين بسهم واحد!!