إن ثمة تناقضاً فى شكل رؤية قارئ العامية حال النظر لمُنجزها، فلقد تشكلت الذائقة على ضوء التجارب الأعلى صوتاً، والأكثر حضوراً، وانصرف جمهور الشعر طوعاً أو كرهاً عن متابعة تجارب تتسم بالفرادة والاختلاف، من هذه التجارب مشروع "أحمد موسى" الشعرى، والذى أزعم أنه على درجة كبيرة من الجدّة والأصالة.
فى ديوان "فرض سادس" تستطيع أن تدرك إلى أى مدى يكمن الفرق بين الشاعر المطبوع والآخر المصنوع، فكل مقدرات الشاعر متماهية مع موهبته تتحدث عن نفسها، حتى كأنك لا تشعر بما يمكن أن نسميه معاناة الخلق الفنى، بل إن الشعر فى حالة من السيولة والاندفاع يؤسس ويرسم العوالم المشتهاة التى يسعى الشاعر لصياغتها.
خلينى اعيش ..
أحلم بشمس جديدة نورها ما ينطفيش
وازرع طريق العمعيد
مفرود نهاره مينتهيش
وان حلمى بعدك مات شهيد
أو مات قتيل ...
ماتعزينيش
فى حقيقة الأمر ودون المصادرة على قناعة من يقرأ العامية، وهنا أعنى القارئ المتمرس، أكاد أراهن على لقاء العالم الموازى الذى تحرص الشاعرية على ستره عن أعين الناس، وظنى أن الشاعر الحقيقى كائن مزدوج رغما عنه، فالمتحقق للمتابع -عن قرب- يختلف اختلافاً كبيراً حال تمت قراءة تجربة الرجل، والتى يغلب عليها مزاج توحد وغربة لا يمكن تجاوزهما، ناهيك عن ذلك الشجن الطاعن الذى يكشف بوضوح عن طقس ملبد بأحزان تراكمت حتى شكلت ما يمكن تسميته"شاعرية النزف".
وهذه الكتابة ولاشك لا يمكن انتحالها، أو بسط معطياتها كادعاء يستند على قدرة الشاعر على تكريس فعل الكتابة لإنجاز ذلك اللون الذى يُرضى ذائقة التلقى التى تميل عادة لاقتفاء أثر الحزن والبحث عنه، لكن تظل معايير التقييم الصحيح تتلمس كم المصداقية التى تنطلق من ثنايا النص.
هنا أشير ولو بطرف خفى لإشكالية الصدق، ففى كتاب"جاك لاكان" المهم {غواية التحليل النفسى} يرى أن النص قد يُفسر فى بعض تجلياته كوثيقة تنتمى لصاحبه، أو للدقة جزء لا يتجزأ من حياته، ودون التورط هنا فى تفاصيل قد تدفع القارئ للإعتقاد بأن القصيدة قد تغادر كونها قطعة فنية حتى لتتحول إلى وثيقة تعبر عن ملمح من حياة صاحبها. أقول: إن شعر"أحمد موسى" إذا لم يكن منتم بالكلية لذاته، فهو على الأقل ينتمى لعالمه الخاص الذى يجيد الحديث عنه. لذا فإن مساحة الصدق التى نبحث عنها فى نصوصه هى حاضرة على مستويين: التحريض على الكتابة، أو مستوى الدوافع التى تخلق أفكار النصوص ومضامينها من جهة، وكذلك الشعور الحاد بالتماس الفاعل بين الذات وما تريد بثه من مواجيد، هى جزء من تفاصيل عالمه.
أنا خايف اطلق بوحى ليصيب الأنام - بالغصب - صهد الفضفضة
قلبى الطريق اللّى مالوش ساعي
فسبينى فيه افرد بطول الحزن أوجاعي
وما تجبريش..
صمتى انّه ينطق وسط كون أطرش غُنا
فى وصف موجز لهذا الديوان أقول: ديوان دسِمْ، انطلقت نصوصه من الذات إلى العالم وبالعكس. كى تكشف عن شاعر لا يصوغ مشروعه الشعرى بمعزل عن أزمة الإنسان فى جملتها، الأمر الذى يعكس بجلاء نصوصا ثرية وإشكالية فى آنٍ معاً، فبعيداً عن تجربة الإغتراب والتوحد، سنجد الغربة فى حقيقتها، الحرص كذلك للبحث عن المعنى بعيداً عن ذلك الركام الذى يعوق إدراكنا لأشرف ما فينا من أفكار لا تنتصر لغير الإنسان.
لكن يظل الأصعب فى رأيى ذلك الحزن المُجَنَّحْ الذى ينُم عن انكسار للقلب، حيال تجربة حب مجهضة أو تكاد، حتى لتجده يخاطبها بشكل حصرى ويدعوها لأن تبتهل رحمات ربه التى تعكس ما يشبه الموت حال ذلك البعد الذى صاغته حركة أقدار مجحفة،أو ظروف بدت أكبر من شخوص الأزمة.
من علامات شاعر العامية المجيد أن تجد لغته بين دفتى البساطة من جهة والعمق من جهة أخرى، وقد قلت أو للدقة آمنت أن ثراء قاموس العامية ثراء خادع، فالقاموس قليل الكم بالضرورة، لكن يظل التحدى الكبير للشاعرية حين تحاول تأسيس لغة تحقق الهدف منها، كذلك بلاغة الأثر الذى يدفع بالقارئ للاعتقاد أنه لأول مرّة يصادف هذه المفردة.
فى تجربة أحمد موسى إجمالاً، لا نصادف قاموس العامية فى تخريجاته الزجلية التى تجعلنا نصادف البساطة فى صورة أكبر من المتوقع، بل إن المفردة قد صِيغت فى أبهى صورة لها، تجعلنا نعتقد بقربها الوثيق من كونها فصحى إلا قليلا.
لا أنُكر عدائى الشخصى لحضور الفصحى فى خطاب العامية، بل وكنت أرى- رأى شخصي- أن حضور الفصحى لا يأتى إلا لثلاثة أسباب حصرية.. { منطقة تناص مُلزمة/ نص يحمل رؤية فلسفية أو تكاد/ أو لكى نستبدل بالفصيحة مفردة عامية متجهة للابتذال{ .
فى حقيقة الأمر من السهل أن نصادف وعياً خالصاً يجعلناً نعتقد بأن المفردة فى تجربة "أحمد موسى" قد تم انتخابها بعناية، بل وعند التعويض بغيرها قد نصادف صعوبة أن نجد ما يوازيها ويكون بالضرورة أقوى منها.
بيخلع روحه ويجوع ع الورق
سطرين يصوم
وعشان يعوم ف المعنى
يتعشى بغرَق
يتعاطى حبِّك كل صبح ويشهقك
نفسين بياض
يغسل سواد الغربه بجنون ضحكِتِك
يستلهمِك تأويل جديد
وحروف عصيَّه على القصيد لا بتتكتب ولا تتقري
بطبيعة الحال هذه ليست قراءة، بقدرما هى شهادة على ديوان أحسبه مهما، لشاعر يقيناً لديه ما يقوله، قد تبدو احتفالاً، لا غضاضة، لكنها استناداً للعامية التى أومن بها، تجربة تستحق أن نطالعها.