لوالدين يعملان بتدريس الموسيقى، تفتح وعي الابنة الوسطى للأستاذ «مصطفى» على الآلات الموسيقية، كانت الألحان تنساب فى أركان البيت وأرجائه، اللغةُ تكاد لا تخلو من الاصطلاح الفني، تتعرف الطفلة على السلم الموسيقى قبل أن تتعلم طلوع سلّم البيت. أن تأتي للحياة في عائلة موسيقية فتصبح هي اهتمامك الأول، مسألة يراها البعض مجرد مصادفة! لكن هل يعيّ أولئك ما معنى المصادفة؟
يُنسب للكاردينال ألبرت جريجوري قوله «ليس الاكتشاف سوى التقاء المصادفة بعقل متنبه جاهز»، فكمّ طفل تربى في بيئات ثقافية وفنية وانتهى به المطاف رجعيًا يمنيًا أصوليًا يحرم الفن ويكفر التّفكير! هنا التقت المصادفة وجاهزية عقل ذات السنوات الخمسة، التي لم تكن تفرق بين الآلات الموسيقية بدقة، خاصة بين «الناي» و«الفلوت»، تبدأ بتعلم البيانو حتى تلتحق بمعهد الكونسيرفتوار الذي كان خاليًا من قسم «الناي»، وتقرر أن يكون المشوار مع «الفلوت»، ولا يكاد يذكر إنسانٌ آلة النفخ الشهيرة إلا وأردفها باسم «رفيقة الفلوت وسيدته».
بفستان أسود يعلوه شال أحمر مطرز بنقوش ذهبية، تقف «رفيقة الفلوت» على خشبة المسرح، تمسك بآلتها التي يصل طولها إلى 66 سم، يتهيأ المايسترو وترتسم على وجه تساؤلات عن الجاهزية، تغمزه برد الطرف، كلّ شيءٍ على ما يرام، ومع إشارة العصا شبه العسكرية، ينطلق الهواء من الصدر، كأنّها النّفخة الأولى التي حملت الروحَ لتمثال من طين. يمر ساخنًا في ثمانية ثقوب رئيسية، يتحسس أصابع اليدين واثنى عشر مفتاحًا، ليخرج أكثر دفئًا، يحمل كالحَمَام الزّاجل عطرَ الأحباب ورائحةَ المقيمين في الأقاصيّ.
«الامتناع عن الكلام» الذي يسكن الحضور قبيل إشارة القائد ببدء الرحلة، ليس مجرد «صمت»، إنّه «الفهم المتبادل بين المقدس والفرد» بتعبير كيركجارد، هو التهيؤ للدخول في حالة آدم وقت أن كان في جنة عدن، بُغضُ الكلام سبيل التبصر الروحاني بالمعنى الصوفيّ، الامتناع عنه هو قرين النُّسك، حارسُ المحبة، مُبعدُ الغضب، وجالبُ الطمأنينة للقلوب. ولمّ لا! وعذوبة الألحان اعتبرها البشر الأوائل توطيدًا للآمال بوجود أبدية دائمة. إنّه الاستعداد لتلقي النفحة، وما أبركها نفحات العازفين، التي تجرح السكون، كمشرط جراح يستخرج النفس من النفس وقت الميلاد، والصرخة «فرحة» تبدأ همسًا مع تمايل سيدة الفلوت يمينًا، ينسرح الصوت ويفيض، ليملأ المكان فيتشبع الأخير بالنرجس، وتشيع المؤانسة؛ تنكشف الحُجب وتتقدمُ «هي»، تنحني قليلًا لتشكر «السّميعة» الذين أدمى التصفيق أياديهم، وطُربت أرواحهم، وهتفت ألسنتهم باسم إيناس.
هي إيناس مصطفى عبد الدايم الشهيرة بإيناس عبد الدايم.
«إيناس والفلوت» علاقة ارتباط كاثوليكي لا انفصال فيه، فمنذ سنوات المعهد الذي تخرجت فيه مطلع الثمانينيات، وهي لا تفارق آلتها أبدًا. لم تتنازل عن لقب الفنانة حتى عندما تولت رئاسة دار الأوبرا المصرية عقب اندلاع ثورة 25 يناير، بعد أن رشحها الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة وقتها، وفي وقت صعيب لم تكن البلاد مستقرة في أوضاعها المتباينة. ولم تتنازل عن مكانتها الفنية وهي قاب خطوة أو أقل بين تولي حقيبة الثقافة عقب الثلاثين من يونيو 2013، لتكون مع موعد لقب أول سيدة تتولى الوزارة المسئولة عن الوجدان في مصر، لتتراجع الدولة عن القرار بعد اعتراضات «سلفية» على اسم «إيناس» تحديدًا.
طبيعي أن يكون رعاة الظلام وحارسو التضليل هم أشد رافضي «سيدة الفلوت»، فلن ينسى التاريخ أن شرارة الغضب الفعلية ضد نظام حكم جماعة الإخوان انطلقت من دار الأوبرا، عقب قرار أهوج بإقصاء «إيناس» من منصبها، أصدره مدرس نكرة بأكاديمية الفنون تولى مسئولية الثقافة في الأيام الأخيرة لحكم «التنظيم». ثمّ تكبر كرة الثلج بسرعة فائقة، يدخل المثقفون في اعتصام مفتوح أمام مكتب الوزير بشارع شجرة الدرة بحي الزمالك، ينضم إليه فئات أخرى من الشعب، حتى يأتي يوم الزحف بالملايين 30 يونيو.
«دون الموسيقى، سوف تكون الحياة خطأً»، عبارة نيتشه الشهيرة تثبت الطبيعة الإنسانية صحتها، وإذا كان الأقدمون قالوا «الجنة من غير الناس ما تنداس»، فالدنيا بلا موسيقى حقًا «جحيم»؛ وتدرك «إيناس» هذه الحقيقة جيدًا، فتعمل جاهدة على تصويب مسار الأيام، وتظل مخلصة على الدرب الفنيّ، تقدر الآلات حق قدرها، تعاملها كأبنائها، وتقربها منها طوال الوقت، وتصطحب منذ سنوات عددًا من آلة الفلوت، فيما تحتفظ بواحدة تسميها «رفيق الكفاح» صُنع يدويًا من الفضة الخالصة، ورغم أنه من المعروف أفضلية وجودة صوت الآلة المصنوعة من الذهب، تحبذ «إيناس» آلتها الفضية، ولا تسمح لأحد بإمساكها، ولا يمكن لقارئ متمرس أن يمرر الفضة دون أن تستدعي الدلالات التي تخزنها المفردة في الذاكرة العربيّة، أبرزها «الرزق» لنتيقن أن الفنَّ الذي تفيض به «رزق» يخصنا ويخصها أيضًا، فالعزف رزق ولنهتف مع أدونيس «يُوقِنُ الصَّائِغُ لِيُصْلحَ نَفْسَهُ وَيُتْقِنُ ليُصْلح الدُّنْيَا».
بدأت إيناس مشوارها الفني بحب البيانو الذي لم تتجاوز علاقتها به حدود الهواية، لتختار الفلوت تحديدًا وتخطو خطواتها الأولى على يد الأستاذ الروسي ڨاليري إيڨانوف، قبل أن يتولاها إسماعيل الشلقاني، ثم تسافر إلى فرنسا وتمكث عشر سنوات، تحصل خلال على ماجستير ودكتوراه وخمس دبلومات، وفي الوقت الذي تتلفت الأنظار فيه على «كثرة الدرجات العلمية» لم يكن هدف إيناس الشهادات بقدر تحصيل المعرفة والعلم، وأن تلمّ بأكبر قدر من الخبرة الفنية.
علاقة إيناس برفيق كفاحها «الفلوت» ملفتة جدًا للمتابعين لشأن الموسيقى، فقال عنها الموسيقار الراحل عمار الشريعي «التحمت هي وآلتها، كونتا كيانًا واحدًا رقيقًا عذبًا دمسًا "شيك" وابن ناس، وخاص جدًا، متفردًا، وإنّ سمعنا العزف على آلتها من شخص آخر، لن تصلنا المشاعر ذاتها، هي سفيرة مصرية فوق العادة، جلبت للمحروسة كثيرًا من التقدير، عصفورة كناريا، لم أذكرها أمام أيّ شخص إلا وأشاد بها، تحصد الجوائز كما تحصد حب الناس».
كما يحبها الناس تحيهم، فالعزف «محبة»، ولا تكترث بخروجات بعض الجمهور الذي لم يعتد بعد الموسيقى الأوبرالية، وتقاليد الحضور، وتستأنس في حفلاتها خارج أسوار الدار بسماعها «عظمة على عظمة يا ست»، تدرك أنّها المحبة التي جعلتها جديرة بجائزة تصنفها واحدة من أفضل 10 نساء بمصر في القرن العشرين. المحبة دفعتها أيضًا إلى تأسيس "فصل دراسي لتعليم آلة الفلوت" للأطفال في سن مبكرة بالأوبرا ولأول مرة في مسيرة الدار عام 1999، كما تمنح خبرتها كمستشارة فنية لأوركسترا الكفيفات «النور والأمل».
على خشبة المسرح، تمنح «إيناس» مقطوعاتها جسدًا يلمسه الحضور، وقدمين تتجول بهما بين «الصالة» و«البلكون»، فالموسيقى حينذاك لا يُكتفى بسماعها، تشد بصرَكَ «رفيقةُ الفلوت» بأدائها وتمايلها مع الانتقال بين جملة وأختها، ينتشر في الهواء مخدرٌ- قانونيّ بالطبع-، تصبح في حلقةٍ يُصبُّ خمرها في قناني الألحان، تسمو بالحاضرين وتصطفيهم، تخطو بهم –وبك- عتبات الحضرة الموسيقية، فلا انفصال بين مهارة العزف وجمال الحركة ودلالات الهيئة والوقوف وسط الأوركسترا.
العزف دواء يُطبب الأرواح، والموسيقيون حقًا هم بُناةُ الفراديس، ودليلو السالكين نحو الممالك اليوتوبية، والمروضون لنزعات التدمير داخل النفوس الُملهمة فجورها وتقواها، والسائرون على حبل مشدود نحو المصائر اللانهائية، والمشِهورون بالحب في وجه البنادق. الموسيقيون يا حضرات هم الرسل الذين لا خاتم لهم، و«إيناس» سلسال المقاومين لوحشة المسافة الهاوية، والممسكين بممحاة يمررونها على خرائب البشرية.
خلال سنوات إقامتها العشرة بفرنسا، حصلت -بجانب شهادتها العلمية- على الجائزة الأولى من اتحاد معاهد الموسيقى 1982، والجائزة الثانية من المسابقة العامة للموسيقى والفن الدرامي. ولم تسلم من بعض «المناكشات» الطريفة طبعًا، كاستدعاء جيران سكنها للشرطة بعد شكوى من مواصلة «إيناس» لمذاكرتها في ساعات الليل برفقة شقيقتها المطربة الأوبرالية العالمية إيمان مصطفى، إذ يجرم القانون الأوروبي «مذاكرة الموسيقى» في أوقات متأخرة، ما عرضها في بعض الحالات للطرد. لتظل مخلصة لآلتها وصامدة حتى في رحلتها إلى اليابان، بدت «سيدة الفلوت ورفيقته» صلبة في مواجهة النظرة الشرقية التي تمظهرت في تساؤل اليابانيين «كيف لمصرية شرقية أن تعزف على الآلة الغربية؟!»، لتقدم ولمرة واحدة طيلة حياتها «عمليّ كونشرتو» في ليلة واحدة، وتتحصل على شهادة تقدير فى المسابقة العالمية بمدينة كيبا اليابانية، وجائزة أحسن عازفة بمهرجان كوريا الشمالية للفنون، وكانت أول مصرية تشارك في مهرجان أوركسترا البحر الأبيض المتوسط بمرسيليا.
وتتمتع «إيناس» بشخصية قوية، تجلت في إدارتها لهيئة المركز الثقافي القومي حاليًا، ومن قبل كمدير أوركسترا القاهرة السيمفوني وعميد المعهد العالى للكونسرفتوار 2004-2010، ونائب رئيس أكاديمية الفنون بالقاهرة 2010- 2011. فضلًا عن أنها تمتاز بسرعة البديهة وحسن التصرف، وتعاملها مع المواقف بطرافة المصريين وحسّهم السّاخر، فذات حفل ضمن حفلات رأس السنة مع المايسترو أحمد الصعيدي، اكتشفت أن مسمارًا بـ"الفلوت" «علّق»، ما يعني ضياع نوتة وخراب العزف، فلم تتوتر وهي تقف على خشبة المسرح، ونظرت عن جانبها وشدت -بحركة غير ملفتة- آلة تلميذتها «صفاء» لتكمل الأخير الحفل تمثيلًا بالعزف.
العزف «خلق»، تجسيد للصمت المطبوع بالرموز في نوتة ورقية، برزخ لحضور الصوت وتكوين الملامح، ويوقن المؤلفون أن التأليف الموسيقي الرائع يحتاج دومًا لعازف بارع، والأخير كنز لو تعلمون ثمين، تقدره الحضارات والشعوب القاصدة للرقيّ، وبعد مشوار ممتد من العطاء الفني يمكننا أن نقول: للموسيقى سيدة تجسدها.