ما أقسى أن تسمع خبر رحيل أبيك، الأب الروحى فى أحيان كثيرة يكون أعمق تأثيرًا من الأب الفعلى، هذا هو ما يمكن أن تشعر به خمسة أجيال ربما تكون متنافرة فكريًا أو إنسانيًا، لكنها فى النهاية لا يجمعها سوى شخصية أب وأستاذ مثل عبد المنعم تليمة، دائمًا ما تذكر الأجيال عميد الأدب العربى طه حسين وكذلك استنارة أحمد لطفى السيد مطوّر الفكر فى جامعة القاهرة، والذى سمح بالتحاق الفتيات بكلية الآداب جامعة القاهرة، فكان التحاق الكبيرة سهير القلماوى التى كان لها تلميذًا نجيبًا وابنًا بارًا هو تلميذها عبد المنعم تليمة الذى رأى أن إتقانه للغة اللاتينية وهى أم اللغات هو كافٍ لمعرفة جميع اللغات المشتقة عنها.
لم تكن للعالِم الجليل الدكتور عبد المنعم تليمة إصدارات كثيرة لكن كان لصدور كتاب "نظرية الأدب" فى بداية الثمانينيات أكبر الأثر على دارسى الأدب، فالأفكار التى حملها الكتاب كانت حدثًا فى أنها، ولم يكن لدارس على مدار العشرين عامًا التالية لظهور الكتاب غنى عن الاستعانة به.
كما كان كتابه الثانى نظرية علم الجمال هو الأول فى مجاله وهو الذى عرّف الباحث العربى بمجالات علم الجمال والذائقة الجمالية لمتلقى ودارس هذا العلم.
لم يقترف د. عبد المنعم تليمة فى حق النقد الأدبى ما اقترفه عدد من مجايليه من تطبيق أعمى للنظريات الغربية وقولبة النصوص العربية فيها، فيظهر تقعر الكلمات ويشعر مبدع النص بفخامة الكلمات النقدية بينما هى لم تؤد لنصه أى شىء .
ارتبط اسم د.عبد المنعم تليمة بالفلسفة، وكان دائمًا ما يوصى تلاميذه وهم فى العالم العربى أكثر من خمسة أجيال بأن يقرأوا الفلسفة بتعمق لأنها أم العلوم، والموجه الأساسى للفكر البشرى ولكل العلوم الإنسانية.
قضى عبد المنعم تليمة ما يقرب من عشر سنوات فى اليابان، وكان هو أول من ذهب إلى هذا البلد المتحضر الجميل كى يفتتح قسم اللغة العربية فى مدينة أوساكا، وقد رأيت فى منزله سفير اليابان فى مصر وعددًا من الأساتذة اليابانيين الذين فور حضورهم إلى القاهرة يذهبون إلى تليمة ومن كثرة ما شاهدتهم عنده كنت أقول له أنت إمام اليابانيين، وكان كلما زاره أحدهم لابد أن يكون منزل عبد المنعم تليمة ملتقى لأساتذة اليابان ومصر وفى دفقة إنسانية منه لابد أن يتعارف الجميع ويتبادلون تضافرهم العلمى وعلاقاتهم الفكرية فى ظل وجود الكبير عبد المنعم تليمة سفير الفكر العربى وأدبه فى اليابان التى كانت تجهل كثيرًا عن اللغة العربية والأدب العربى حتى ذهب تليمة إلى اليابان.
حكايات عبد المنعم تليمة عن اليابان وإيمانه بالفكر الاشتراكى حكايات لا يمل كل من يسمعها منها حتى وإن تكررت فإن من يسمعها يطلب منه أن يحكيها مرة أخرى لأن عبد المنعم تليمة لا يحكيها بعين المنبهر بالمجتمع اليابانى المتقدم بقدر ما كان يحكيها بعين الرجل المؤمن بالمبادئ الاشتراكية الحقيقية فى دول يأخذ المواطن فيها كل حقه ولا يتمايز فيها أى شخص مهما كانت مكانته الاجتماعية ودرجته العلمية الكل سواسية، فى مقصف كلية العلوم الإنسانية بمدينة أوساكا كان اصطفاف العالم والعامل والمفكر والأستاذ الجامعى كلهم فى خط منتظم للحصول على وجبة الطعام فى وقت الراحة المحدد للجميع، ليجد تليمة مثلاً فعليًا للسواسية والاستواء فى المجتمع .
كان د. عبد المنعم تليمة يفتخر أنه تعلم ركوب العجلة فى اليابان، لأن معظم المجتمع اليابانى يستخدم هذه الوسيلة الجميلة فى الانتقال، وعلى بوابة الجامعة كل يصف عجلته فى مكانها المحدد باحترام دون أن يتعد أحد على مكان الآخر أو يكون هناك سائس ينظم الجميع بمقابل مادى مثلما يحدث فى بلادنا، كان دائما ما يذكر تليمة أن العشر سنوات التى عاشها فى اليابان هى عمره كله.
بدأ صالون الخميس الأدبى الذى كان د.عبد المنعم تليمة يحرص على أن يكون ليلة الخميس من كل أسبوع منذ كان أعزبًا يسكن فى مصر القديمة فكان الصالون يجمع مجايليه وزملاءه حتى انتقل إلى منطقة بين السرايات فاستمر لقاء الخميس الذى لم يتوقف حتى نهاية حياته، فى صالون عبد المنعم تليمة كان اجتماع الأساتذة والباحثين والمفكرين والأدباء بأجيالهم المختلفة والكل يتناقش بحرية ومحبة وديمقراطية حتى لو كانوا فرقاء فكريا لكن عراقة الصالون وآداب الحوار وثراءه وشموخ تليمة صاحب الصالون كان يلزم الجميع بآداب الحوار والتعليق وثراء النقاش .
كان للمفكر الجليل الراحل د. عبد المنعم تليمة الفضل الكبير على كاتبة هذه السطور التى اعتبرها ابنته وتلميذته، فعندما أردت تسجيل درجة الدكتوراه فى الرواية المقارنة (الأمريكية والمصرية) فرح تليمة وشجعنى أيما تشجيع على الاستمرار فى الموضوع نظرًا لجديته على الأدب العربى والأمريكى، وكلما استمر البحث ازداد تشجيع عبد المنعم تليمة لكاتبة هذه السطور فكان هو والدكتورة فريال جبورى غزول أمد الله فى عمرها ومتعها بالصحة هما خير مساعد ومؤمن بجدية باحثة صغيرة فى مرحلة الدكتوراه لإيمانهم بإضافة الرسالة لمجال البحث العلمى وجديدها على الأدبين الأمريكى والمصرى. ربما لا يجتمع الناس كثيرا على أحد لكن الراحل الكبير عبد المنعم تليمة جمّع القاصى والدانى فكريا وعلميا وثقافيا، الكل فى محبة هذا الصرح الكبير الذى سيذكر له التاريخ مواقفه السياسية التى لم تتغير واعتذاره عن مجاملة زوجة إحدى حكام مصر عندما أرادت أن تحصل على درجة الدكتوراه بينما كان تليمة رئيسًا لقسم اللغة العربية بجامعة القاهرة وكانت هذه السيدة التى اعتبرت نفسها سيدة مصر الأولى تريد الحصول على الدرجة إبان حكم زوجها للبلاد فتنحى عبد المنعم تليمة عن المشاركة فى هذا الفعل المجوف بينما رضى غيره طمعا فى الرضى السامى للرئيس.
عندما كنت تقترب من الراحل عبد المنعم تليمة لا تبهرك ثقافته العلمية فحسب، بل تبهرك ثقافته الموسيقية، فى بيت عبد المنعم تليمة لابد أن تستمع لأهم وأجمل السيمفونيات العالمية خاصة لمعشوقه بيتهوفن ولا يألوا تليمة جهدًا فى تعريف المستمع على أنواع الموسيقى المختلفة وذائقتها المتنوعة وإذا وجد مستمعه منبهرا بالموسيقى الغربية يبهره أكثر بما لا يقل عنها، يبهره بصديقه المقرب منه الموسيقار محمد عبد الوهاب فلا يجعل المستمع يستمع لعبد الوهاب دون أن يتحفه بصوره مع هذا الموسيقار الكبير وبالحكايات الشائقة عنه .
رحيل الكبير عبد المنعم تليمة رحيل الأب العالم المفكر الفيلسوف الفنان صاحب القلب الكبير الذى كان مأوى وملجأ لكل من لجأ إليه، رحيله هو الرحيل الرابط بين خمسة أجيال جاءت بعده وجيل عصر النهضة عصر الكبار طه حسين واحمد لطفى السيد وسهير القلماوى.