ينشر "
انفراد" فصل من مجموعة الكاتب والسيناريست محمد صلاح العزب "ستديو ريهام للتصوير"، والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، ويوقع حفل توقيعها الجمعة 5 فبراير فى الـ5 مساء بجناح الدار المصرية اللبنانية - العرض المكشوف (الهناجر) أمام سراي إيطاليا - بوابة ممدوح سالم الموازي لصلاح سالم.. وإلى الجزء الكامل:
10 دقائق في رأس مدام سماح الطويلة.. "المليانة من تحت"
1800 جنيه X 19 شهر= 34200 جنيه وتنتهي أقساط السيارة المخبوطة.
شاب مسرع خبط السيارة بالأمس، لمحته من البلكونة وهي تجمع الغسيل، وصرخت عليه، فوقف وأشار لها معتذرا، ونزلت مسرعة بشبشب الحمام بعد أن خطفت الموبايل والمفاتيح ورزعت باب الشقة خلفها.
لمحت عددا من الشعرات البيضاء في رأسها في مرآة الأسانسير، وفكرت للحظة أنها ستضطر إلى صبغ شعرها مبكرا، وتذكرت شعر أمها الأبيض كله، وشمت رائحة بول في الأسانسير، وخرجت مسرعة حين توقف الأسانسير في الدور الأرضي وجرت إلى الشارع فوجدت أن الشاب اختفى، ونظرت إلى سيارتها فوجدت الاكصدام مكسورا ومدلى على الأرض، وشنطة السيارة مخبوطة للداخل، والبواب يأتي متكاسلا من مدخل العمارة:
-هو في حاجة يا مدام سماح؟
لم ترد عليه، وقررت أن تتماسك ولا تبكي، ونظرت إلى البلكونة، فاكتشفت أنها تركت إحدى الملاءات معلقة بمشبك واحد.
رن موبايلها فقرأت اسم: الحاج رضوان الشقة.
لم ترد ونظرت إلى السيارة المخبوطة، والملاءة المرفرفة، وشبشب الحمام في قدميها، والبواب يحاول أن يعدل الاكصدام، فطلبت منه أن يتركه وأن يشتري لها علبة سجائر، وصعدت.
* * *
زملاء مدام سماح سمير الأجهوري في شركة الشحن والتفريغ الحكومية فرحوا من أسفل الترابيزة بخبر طلاقها، فالأستاذ يسري الأسمراني القصير يريد أن يتزوجها، والأستاذ مندور الأصلع رئيسها المباشر يحب أن ينظر لها من تحت وهي تتحرك بين المكاتب ويتخيل أنه "يزنقها" بعد انصراف الموظفين، وعبد الله الأبيضاني المتختخ الذي لا يناديه أحد بكلمة أستاذ لأنه أحدثهم في العمل يكلمها على الفيس بوك من أكونت وهمي، ويخبرها أنه معجب برسمة جسدها الطويل المليان من تحت، فتصده وتغير الموضوع لكنها تظل تتكلم معه.
ثلاث سنوات مرت منذ حصلت على قسيمة طلاقها، ولم يتزوجها الأستاذ يسري الأسمراني القصير، لأنها قالت له:
- أنا بعزك زي أخويا هشام بالظبط يا أستاذ يسري.
ولم "يزنقها" الأستاذ مندور الأصلع رئيسها المباشر في المكتب، لأنها متعجلة دوما ومن المستحيل أن تظل حتى يخلو المكتب عليهما، ومازال عبد الله الأبيضاني المتختخ يكلمها على الفيس بوك باعتباره شخصا آخر، وكلما تطرق الكلام إلى جمال قوامها بسبب كونه "مليان من تحت" تغير الموضوع.
دخلت البلكونة، سيطرت على الملاءة المرفرفة بصعوبة وأدخلتها، ورن تليفونها مرة أخرى - "الحاج رضوان الشقة" - فلم ترد أيضا، وأشعلت سيجارة، وخرجت ابنتها حبيبة ذات الإحدى عشر عاما من غرفتها وكانت نائمة، فأطفأت سماح السيجارة وفتحت حبيبة التلفزيون، ورن التليفون مرة أخرى "الحاج رضوان الشقة" فقالت لها حبيبة:
-تليفونك بيرن.
ردت على التليفون، فهددها الحاج رضوان صاحب الشقة بالمحكمة لأنها لم تدفع الأقساط منذ 6 أشهر، وأن من حقه أن يطردها، كانت تسمعه وهي تفكر هل تغير الكوافير أم تغير نوع الصبغة، لأنها صبغته منذ أقل من شهر، وفكرت أنها لو تركت الأستاذ مندور الأصلع يتمادى قليلا فربما يسهل لها الحصول على بعض العمولات غير الشرعية فتتخلص من زن الحاج رضوان الشقة، الذي قال لها في نهاية المكالمة إنه فاهم الظروف لكنه هو شخصيا "عليه فلوس لناس".
الحاج رضوان أغلق غاضبا من عدم ردها بشكل يريحه، والأستاذ مندور الأصلع لو بدأ فلن يتوقف، والعمولات القليلة التي تنجح في الحصول عليها لا تكفي سداد الأقساط، سيد الكوافير جيد لكن شركات التجميل تغش في الصبغة، وسعر اكصدام السيارة في التوكيل أغلى بكثير من سعره بتركيبه في الحرفيين، وبعد يومين سيتصلون بها من أجل قسط النادي، وبعد شهر موعد قسط مدرسة حبيبة، وحبيبة كبرت، قامت لتدخل الحمام، والتلفزيون يعرض فيلما أجنبيا به بطل يقبل بطلة ويضع يده تقريبا على مؤخرتها، فكرت كيف يسمحون بمثل هذه المناظر في التلفزيون، وفكرت أن البطلة مضطرة لمثل هذا الحضن من أجل فلوس الأقساط لأن الحياة في أمريكا باهظة الثمن، تذكرت أنها قرأت أن معظم الأمريكيين في أزمة بسبب الأقساط والفوائد، وتخيلت أنها أمريكية، وأنها مكان البطلة، وركبت وجوه الأستاذ يسري الأسمراني القصير ثم الأستاذ مندور الأصلع ثم عبد الله الأبيضاني المتختخ مكان وجه البطل، وتذكرت أن الشاب الذي صدم سيارتها كان وسيما، وأنه يشبه طليقها إلى حد ما، وفكرت أنها ربما ترجع له لو عرض عليها الرجوع، وفكرت أنه لم يعرض أبدا.
انقطع النور فجأة، وطرق باب الشقة فقامت بتثاقل وفتحت فوجدت البواب والسجائر، أعطته النقود وأغلقت الباب.
الحاج رضوان الشقة يكلف البواب بمراقبة كل تحركاتها وضيوفها، زوجة البواب أخبرتها، وقالت إنهم لا ينفذون كلامه، وإنه راجل بخيل، وإنها أكرم منه، وضحكت ببلاهة وخجل وهي تقول:
-عشان متطلقة يعني لامؤاخذة يا مدام.. وبتشربي سجاير.
خرجت حبيبة من الحمام، وقالت:
-مين؟
نظرت لها سماح بتأمل من بعيد، حبيبة كبرت، وأصبحت طويلة.. فكرت لو كلمت هشام أخوها وطلبت منه سلفة سابعة.. حبيبة أصبحت أطول من كل زميلاتها، وظهرت عليها ملامح أنوثة مبكرة.
تأملت نصف ابنتها السفلي المرسوم بامتلاء خفيف، وفكرت أن حبيبة تشبهها، وأنها ربما تعاني مثلها، وربما كان سيد الكوافير هو الذي يخفف الصبغة، وتذكرت أنها لمحت الشاب الذي صدم سيارتها قبل ذلك وحاولت أن تعصر مخها لتتذكر أين رأته دون فائدة.
حبيبة بها ملامح من طليقها لكنها أخذت طولها وجسمها هي، وبعض ملامح الشاب الذي صدم السيارة، وأخوها هشام لم يفكر في التدخل مطلقا لحل الخلافات بينها وبين شقيقها، لكنه لا يتذمر من منحها السلفة تلو السلفة، وزوجته غادة هي التي وصفت لها سيد الكوافير أول مرة، ولم تعد تذهب إليه، أو إلى أي كوافير آخر.
فكرت في تحرير محضر في الشرطة للشاب الذي لا تعرف اسمه أو رقم سيارته لكنها يمكن أن تصف لهم ملامحه، أو تخرج لهم الصور القليلة لها مع طليقها وتخبرهم أنه يشبهه، فكرت هل تأخذ معها حبيبة إلى القسم أم لا، ثم استبعدت الفكرة كلها لأنها "عبيطة"، وأن الشرطة كلها لا جدوى لها، وفكرت أنه يجب أن تكون هناك جهة لحل مشاكل الناس، وقالت لنفسها إن هذا صعب لأن المشاكل كثيرة ومتنوعة ولا رابط بينها.
سألتها حبيبة:
-انتي هتفضلي واقفة ولا هتنامي؟
قالت لها سماح وهي ترمي علبة السجائر بجوار التلفزيون.
-هنام.
وأشارت لحبيبة لتقترب منها، فظنت حبيبة أنها تريد أن تحضنها، فحضنتها، ولم تركز سماح في الحضن وهي تقيس طول حبيبة بها، ووجدت أن رأس حبيبة عند أعلى صدرها، وخافت أن تصبح حبيبة أطول منها، وتعجبت حبيبة في حضنها، ونظرت لها، فوضعت يدها على كتفها، وضمتها وهما متجهتان إلى غرفة النوم، ودخلتا، وأغلقت حبيبة الباب خلفهما.