عندما تابعت الترداد الببغائى لتعبير صحفى يقول "إن ديوان مساكين يعملون فى البحر" انحياز للبسطاء تململت خوفا على شاعره الموهوب عبد الرحمن مقلد. ربما كان الديوان وفيًا لبعض مما حمله تعبير كهذا، لكن وفاءه هذا لا يعنى تحويله، بالضرورة، إلى إجابة على سؤال غير شعرى بالأساس، وإن شئنا فمثل هذا السؤال يستعيد محنة مجتمعية لا يجب على شاعرها أن يتمنطق فيها بمنطق السياسي، ولا أن يذهب فريسة لجماهير من القساة يصفهم الشاعر نفسه فى قصيدته "يعملون فى البحر" بأنهم: "لا يجرحون بديهتهم بالسؤال/ ولا يخمدون على الرمل فى الليل / يكتشفون المآل ..". والتقدير هنا أن شاعر "مساكين يعملون فى البحر" ينطوى على تجربة أكبر من اختصارها فى كونها مرافعة عصماء عن مساكينه. وقبل حوالى مئة عام وصف أحد النقاد ملحمة ميلتون "الفردوس المفقود" بأنها عار الشعر، وأن أسوأ جنرال فى انجلترا يستطيع صناعة نبيذ أشهى وأعذب من تلك الملحمة، كان دافع ذلك النائب البريطانى المرموق وقتئذ أن ميلتون اختار أن يكون نبيًا بدلا من أن يكون شاعرًا، ونحن كبشر فانين سنصدق الشعراء ليس أكثر.
ومقلد فى ديوانه "مساكين يعملون فى البحر" شاعر بامتياز، شاعر يصدر عن وعى بالموقف الجمالى لنصه الشعري، يتبدى ذلك فى معالجاته اللغوية والمضمونية، وموقفه من تطور النص التفعيلى فى عمومه. ولابد أن قارئ "مقلد" سيتوقف أمام تلك البساطة البادية فى آداءاته اللغوية التى تعكس وعيًا خاصًا بحدود التركيب وأسقف التأويل والتأويل المفرط اللذين أثقلا الذاكرة الشعرية بمعاظلات لم يكن الشعر فى حاجة إليها. وأظن أن ذلك الوعى يرتبط بانحياز جامح لما يمكن تسميته بالشعرية المحضة، وهو هنا يتخلص بضربة واحدة من تراثات مؤثرة فى تاريخ النص التفعيلي، وربما استفاد فى ذلك من تنظيرات عدة حول وعى الشاعر الجديد لا سيما أن قناعات "مقلد" هنا تمثل جزءًا من قناعات قصيدة النثر بدور اللغة فى استيلاد الشعرية، وهى فى الإجمال تصورات رفضت العمل تحت وطأة القناعة التاريخية بأن الشعر جزء من نظرية اللغة، ووضعته على المحك مع العديد من العناصر الجمالية بما فيها علم المنطق نفسه (أقصد علم البرهان) باعتباره أحد نقائض نظرية الشعر.
هذا يعنى أن "مقلد" تمرد على تراكمات وأجيال شتى. وكان عليه بالضرورة أن يكتشف شعريته ضمن عناصر متباينة لا تعتمد على الوعى الفطرى فحسب، بل هى لا تخلو من روافد شديدة التأثير يأتى الواقع وصراعاته المحمومة على رأسها، وهنا يتبلور وعى الشاعر بالدور الوظيفى للغة أو دورها الأدائى ما يعنى الخفض من سقف تأثيراتها، والبحث عن الشعرية ضمن عناصر أخرى، ربما تبدت فى حركة التاريخ والأساطير والمقدس والكائنات التى شكلت جانبًا كبيرا من الوعى الجمالى لتلك الشعرية.
تستغرق قصائد الديوان ثيمتان: البحر، والقطارات، وكلا الرمزين يشيان بحركة محمومة فى زمن سرمدى لا بداية ولانهاية لمأساويته. سيتبدى الشاعر قائدًا لمهزومين فقراء لسان حالهم يقول: "ومن حظنا أن فقدنا خيالاتنا/ عن نساء على الشط/ يصنعن غزلا جديدا لأنوالهن/ ويبقين قمصاننا فى الأسرة تحمى روائحنا .. " (قصيدة يعملون فى البحر صـ 12)، ثم يتبدى البحر كذاكرة مجهضة فى قصيدة "مثل فلاسفة قدماء"، حيث يقول الشاعر: "هل تعود لنا طيبًا وأليفًا لتجعلنا نتثاءب ثانية/ وتقص علينا حكايات أجدادنا سوف نذهب للبحر.. نترك فيه مراكبنا الورقية/ حتى تعود لنا من موانئ ليست تلوح مناراتها فى المجال"، وفى مرثية لوالده بعنوان "نوار يضيء ويختفي" يقول "مقلد" فى وصية هى فى جوهرها وصاية من نوع خاص: "ثم أوصانى على ناس البحيرة : إنهم فقراء يا ولدى وفلاحون مثلى أقرباء لنا/ وكن يا ابنى رحيما بالغلابة إنهم أهلى وأهلك".
البحر إذن يأخذ سحره لدى مقلد من أنه فضاء مطلق وخيمة أبدية لمطرودين من جنة البشر ومن قسوة المآلات. البحر هنا مبعوث العناية التى ضمنت الحد الأدنى من قض العالم وقضيضه. وهى صورة تختلف أشد الاختلاف عن الصورة الفاجعة للبحر فى "أناشيد مالدرورو" للشاعر الفرنسى "لوتريامون" حيث البحر صورة لطريق إلى الأعشاش المهجورة والطرق الوعرة والصفحات الكامدة المليئة بالسم، وحيث الأشياء كلها تكتسى بالألوان الصفراء بما فى ذلك كل دلالات الإياب والنكوص، كذلك تختلف عن صورة البحر الذى قرأناه وأغرقتنا لجته لدى "سان جون بيرس" فى مناراته التى يبدو البحر فيها مجرد منائر عتيقة وعناقيد من البرونز وأنشودة من حجر وعبير وردة مأتمية، البحر أيضا يبدو مختلفا لدى "فرناندو بيسوا" الذى تحدث عنه باستفاضة مدهشة على لسان قرينه "ألبارو دى كامبوس" الذى عمل حمالًا على شواطئه، ولا يذكر بيسوا من ذلك سوى أنه لجة من السواد التى تكرس مذلته لصالح عنقاء لا يرى منها سوى مناقير حادة تقتحم حلمه الغارق أسفل قيعان سوداء.
البحر إذن ثيمة رجراجة وغامضة كدلالاته، لكنه يبدو فى صورته لدى عبد الرحمن مقلد أكثر إنسانية وأكثر سكينة ورأفة. وهو اختيار يلائم تقديمه لديوانه بآية من سورة الكهف: "أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر". وهو اختيار أدى فريضته الشعرية دون تعقيب ممكن حول الاستلاب الذى اعتلى من خلاله النص المقدس ناصية القول وأصبح فى مرتقى تصعب إزاحته.
فى سياق الوعى نفسه سنجد ثمة تصورات مثالية حميمة، ترق كلما تصاعدت حولها مأساة إنسان الشاعر ومحل عنايته، سنجد ذلك فى الأسى الذى تحمله اللغة الشعرية فى قصيدة "أنا مثلكم أتألم"، حيث الموت الذى يحصد عشرات الأرواح فى قسوة بالغة ترصدها القصيدة، يتألم الموت مما يفعل لكنه يبدو أسيرًا لإرادة غيره وكأن لسان الشاعر يريد أن يلقى بتلك المسؤولية العبثية على عاتق مصدر الأمر نفسه، وهى صورة تغاير صورة الموت الذى يمثل أعلى النقائض الكونية الممكنة لأنه هلام يمثل حقيقة مفجعة وجاثمة تقف فى مواجهة بشر يمثلون حقيقة مكتملة لكنها قابلة للغياب فى أية لحظة، فيتحول الغائب دائما إلى حقيقة، ويتحول الحاضر دائما إلى هلام.
ووعى الشاعر هنا لا يتجزأ. فهو عندما التمس العذر للموت التمسه أيضا للدم فى قصيدة تحمل العنوان نفسه، كما التمسه فى الصراع مع الآخر فى قصيدته الرائقة "عدُّوان" عن الحرب التى لا يذهب وقودًا لها إلا فقرائه. ومع ذلك فإن الألم النبيل الذى تكتظ به قصائد الديوان يجد متنفسًا له فى قصيدة بديعة هى "ثلاث وعشرون قاطرة" حيث الأمل يتجدد من البقاء أمام البحر، كما يتجدد بمغادرته عبر ثلاث وعشرين قاطرة هى ربما سنوات الألم فى عمر الشاعر، حيث تتنامى حكايات حميمة وكاسرة تعيد صياغة وعينا باللغة الشعرية التى تبدو اعتيادية فى رفضها للقشابة، لكنها تبدو جارحة جدًا بمسوغات وظيفتها فى صناعة الصورة الشعرية ومردوداتها فى تاريخ النوع وتاريخ الذائقة عموما.
وفى الحقيقة لم تكن تلك القصيدة وحدها هى سُرَّة الشعرية وديوانها، بل ثمة قصائد طافرة بشعريتها ووعيها الجمالي. فبالإضافة لقصيدة الديوان ظلت ترن فى إذنى إيقاعية متسارعة ومتواترة لمعظم قصائد الديوان، وربما لهذا السبب انتظم الكثير منها بحر المتقارب ودائرته العروضية، وستظل هنالك قصائد سابغة الشعرية مثل "موعظة الرحلة، نوار يضيء ويختفي، فى مديح المحبة، الأناشيد، وقصيدة الثورة" التى تعد نموذجا للبناء الشعرى المحكم عندما يصادف الشعر موضوعه.
لكن ستظل ثمة قصائد أخرى موضع تساؤل. فقصائد الأسماء عموما تحتاج لإعادة نظر إزاء وعيها الشعرى الذى بدا كأنه استنامة لفكرة المآثر التى سادت الشعر العربى فى باب المديح، تستوى فى ذلك قصائد "فاتن حمامة، محمود سباق، ومحمود درويش". وكنت أتمنى أن يختار الشاعر لقصيدته عن درويش عنوانًا آخر سوى ذلك العنوان "أثر العابر" الذى هو فى الأصل عنوان مختارات شعرية صدرت قبل عدة سنوات للشاعر الأردنى أمجد ناصر، ثم إننى كقارئ لم أسترح كثيرًا لمفردة "العابر" أمام قيمة شعرية كمحمود درويش، فقد نعت بها غيره من أوشاب الحضارة الإنسانية، أقصد وصفه للصهيونية فى قصيدته الإشكالية "عابرون فى كلام عابر"، ولا يغفر للشاعر أن مالارميه وصف رامبو بأنه "العابر الهائل" على ما فى التعبير من تحرز لأنه يبدو نتاج علاقة وثيقة برحيل رامبو فى سن مبكرة استدعت وصفه بالعابر.
سأتوقف أيضا عند بعض التخييل المفرط فى اعتياديته عندما يكرر الشاعر، فى أكثر من موضع ربطه التعب "الإجهاد" بتعب القلب والرئتين، على ما فى ذلك من تقريرية وبداهة تناقض فكرة الانحراف التى استعملها الفلاسفة المسلمون تحت مسمى التغييرات، أى الانحراف عن مألوف اللغة، ومن ثم مألوف الدلالة كما يقول ابن رشد، وهو ما يفرق بين الشعر والخطابة وألوان الإنشاء الأخرى. كما يتبقى لى أيضا الإشارة إلى فداحة الطلب الذى يفارق موضوعه الشعرى فى قصيدة "خراب يملأ العين" صـ 149: "اتبعونى لنبنى شيوعية للأحبة"، وسأذكر الشاعر هنا بأن أحد أكبر بنَّائى الشيوعية "فرديدرك إنجلز" هو القائل: "لا يفترض فى الكاتب أن يعطى القارئ حلًا تاريخيًا للصراع الاجتماعى الذى يصوره".
وفى النهاية أقول: لقد استمتعت حقا بشذى تلك الباقة التى منَّتْ بها علينا حدائق الشاعر عبد الرحمن مقلد، لكن هذا لا يمنعنى من أن أقول له: "فى المرة القادمة سننتظر منك أن تطلق علينا نفايات المدينة، إلى جانب زنابقها، فعجينة الخبث مثلها مثل سبيكة الذهب فى يد الشاعر الذى هو أنت".