"القيم الأساسية فى الليبرالية، هى قيم سابقة للغرب، قيم ومعطيات إنسانية وجدت فى كل المجتمعات، ميزة الغرب أنه أخذ هذه المشتركات الإنسانية، وصاغها فى معادلة سياسية اقتصادية معينة" بهذه الكلمات صدر الكاتب محمد بن عيسى الكنعان أول فصول كتابه المهم، "الأمية الفكرية.. تفكيك خطاب الليبراليين السعوديين"، الصادر حديثا عن مركز الفكر المعاصر.
الكتاب وجبة ثقافية دسمة لمجموعة من المقالات المتعمقة التى واصل فيها الكاتب عبر سنوات مناقشة الليبرالية بعمق سواء فى مقالته الأسبوعية بصحيفة الجزيرة السعودية أو عبر تفاعله ومتابعته الجادة لكل ما يخص دعاة الليبرالية فى المجتمع السعودية خلال السنوات العشر الأخيرة.
ينقسم الكتاب إلى مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، تراوحت المقالات فى فصلها الأول بين فهم معنى الليبرالية وموقفها من الدين والنزعة الفردية وصولا إلى مصير الليبرالية الاقتصادية وتجليات هذا المصير فى الأزمة المالية العالمية.
وتصدر الفصل الثانى من الكتاب عنوانا مهما: كيف تكون ليبراليا؟ وفيه كشف الكاتب هشاشة الوهم الليبرالى وتوسع فى شرح حدود الأمية الفكرية لدى الليبراليين السعوديين، يقول الكاتب: "وفى حالة الليبرالية لم يتعامل من يرون أنفسهم ليبراليين سعوديين بمنهجية واضحة مع الليبرالية، فكانت أميتهم الصغرى فى عدم فهم المضمون الفكرى لليبرالية، ما أدى إلى أميتهم الكبرى فى عدم استيعاب البعد الحضارى لهذا الفكر الغربى الذى أمسى النموذج الفعلى للحضارة الغربية وانعكاسه السلبى على الواقع الإسلامى ككل، بمجتمعاته المتنوعة ودوله المختلفة التى تعبر عنها هوية دينية واحدة وتربطها قيم إسلامية مشتركة.
الكاتب يقر بأن اليبرالية أعظم ما توصلت إليه العقلية الغربية خلال عصور النهضة الأوروبية بل هى ثمرة عصر التنوير الذى أعلى من شأن العقل على حساب كل مصادر المعرفة وأولها الدين.
ولا يدارى الكاتب موقفه من عجز النظرية الرأسمالية على مواجهة تردى الأوضاع الاقتصادية عالميا الأمر الذى أودى إلى الأزمة المالية العالمية الطاحنة فى 2008 و2009، وهنا يعلن الكاتب تحيزه بكل وضوح للنظام الاقتصادى فى الإسلام مؤكدا أنه المنهج الرشيد فى إدارة المال وتحقيق الإنتاج وضبط الاستهلاك وتوزيع الثروة واستغلال الموارد الطبيعية وغير ذلك من مفاصل اقتصاديات الدول بحكم أسسه الاقتصادية ونظمه المصرفية وقيمه الأخلاقية فى المعاملات كلها.
وكما يكشف الكاتب ببراعة جوانب مما وصفه بعسر الفهم الليبرالى لدى من يسمون أنفسهم بالليبراليين السعوديين يؤكد فى جانب آخر على لسان "جون بى آلترمان" مدير برنامج الشرق الأوسط بمعهد الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكى أن الغرب قبلة الليبرالى السعودى وأن من مصلحة دعاة الليبرالية الغربية أن تكون لهم ذيول ومريدون فى الشرق وفى العالم العربى تحديداً، يقول جون فى صحيفة الفايننشال تايمز 3 أغسطس 2004: "يجب ألا نتخلى عن الليبراليين العرب.. الكثير منهم مناضلون فى سبيل الأفكار، والمثل العليا الغربية، ومن شأن التخلى عنهم أن يوجد إشارات خاطئة".
وفى مقالته المعنونة بـ "قطعة قماش تهز أوروبا وتمتحن ليبراليتها" يفضح الكاتب هشاشة الدعاوى الليبرالية فى معقلها الغربى، إذا تبرز هشاشتها فى حروبها الوهمية ضد الحجاب وأغطية الرأس وغيرها، وتجليات ذلك فى طرد محجبات من مدارسهن أو فقد البعض منهن لمصدر الرزق بسبب الحجاب، ويخلص الكاتب إلى أن الغرب يغالط نفسه، إذ كيف يقول إنه يقبل بالحريات الدينية وفى الوقت نفسه يرفض تطبيقات هذه الحريات، العبرة الحقيقية فى فلسفة الحرية هى أن يمارس الفرد بكامل اختياره المبدأ والتطبيق معا أما أن تسمح له باعتناق دين ما ثم تقيد ممارسته لمعتقدات هذا الدين فهى حرية دينية منقوصة وتلك واحدة من الأزمات الحضارية التى يعيشها الفكر الليبرالى الغربى.
يكشف الكاتب فى مواضع عدة هشاشة الفكر الليبرالى الذى يدعى مناصرته للحريات خاصة حرية الرأى والتعبير والأديان فى وقت يسمح بمعادة الإسلام وتشويه الرموز الدينية وإنتاج أفلام مسيئة لرسولنا الكريم محمد صل الله عليه وسلم فضلا عن انتشار رسوم الفتنة الكاريكاتورية المسيئة، ومع ذلك كله ما زال الليبراليون السعوديون يرون أن العالم لم يعرف حقوق الإنسان إلا من خلال الغرب، ويخلص الكاتب إلى أن من يسمون أنفسهم بـ "الليبراليين السعوديين" ما زالوا يعانون من إشكاليات مفصلية منها عدم الاتفاق على تعريف أو فهم مشترك فيما بينهم لليبرالى، هل هى دين أم مذهب أم أسلوب حياة أم أنها غير ذلك؟
ينتقد المؤلف الجانب التطبيقى عند الليبراليين السعوديين ويصف خطابهم بالانتقائى بين ما يدعون ويتغنون به من قيم إنسانية ومبادئ حضارية تحت دعاوى الليبرالية وبين تطبيقاتهم لتلك القيم والمبادئ، ويضرب المؤلف مثالا صارخاً لهذا التناقض بقوله: تجد الليبرالى يرفض تماما نظرية المؤامرة عند تفسير مواقف الغرب ضد الأمة، ولكن يقدس هذه النظرية عند تفسيره مواقف المسلمين، وتجده يستشهد بالتاريخ الإسلامى عندما يجد حادثة تعزز موقفه الفكرى بينما هو على طول الخط ضد الاستشهاد بهذا التاريخ باعتباره مختلف عن واقعنا المعاش ومغاير للتطور والحضارة والمدنية الراهنة من وجهة نظر هذا الليبرالى.
ينادى الليبرالى بالديمقراطية لأنها أدق وسيلة لاختيار الأفضل والتعبير عن رغبة الأمة، وعندما تأتى الصناديق بالإسلاميين على حد قول المؤلف ينبرى الليبرالى ليؤكد أن الديمقراطية ليست بالصناديق!!
هكذا تنتهى وجبة المقالات الدسمة التى كتبها محمد الكنعان على مدى ست سنوات فى صحف الجزيرة والحياة اللندنية وموقع المثقف الجديد وصفحته الشخصية على الفيس بوك فى الفترة من 2007 وحتى 2013 وضمها بين دفتى كتاب مثير للنقاش، ويستوجب القراءة المتأنية لنقده لليبرالية فى نموذجها العربى السعودى فكرا وتطبيقا وممارسة لقناعة خالصة لدى الكاتب مؤداها أن الليبرالية الغربية تجربة حضارية تخص الغرب جرت وفق ظروف تاريخية مرتبطة بالواقع الغربى ولها معاييرها وقيمها التى قد لا تتسق بالضرورة فكرا وتطبيقا مع واقع عالمنا العربى.