كانت حياة الخديو إسماعيل كثيرة التفاصيل ومرهقة تماما، كانت أحلامه كبيرة وهزائمة كبيرة أيضا، لكن هناك ثلاث حكايات مهمة فى تاريخه منها:
إسماعيل يمنح موظف بشّره بموت عمه "البكوية"
ذكر الكاتب الصحفى سعيد الشحات فى عموده اليومى "ذات يوم" قصة طريفة كان إسماعيل "ولى العهد" طرفا فى هذه القضية وفيها "شعر إسماعيل باشا أن عمه الوالى سعيد يرقد رقدته الأخيرة فى الإسكندرية، وأن موته بات قريبا، فانتظر خبر الموت وهو فى القاهرة كى يأخذ مكان العم والجد محمد على باشا فى حكم مصر، وحسب كتاب "تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل باشا" تأليف "إلياس الأيوبى"، الصادر عن "دار المعارف - القاهرة"، فإن العادة جرت على أن ينعم الوالى الجديد بلقب "بك" إلى من يأتى إليه بخبر اعتلائه العرش، وإذا كان حامل هذا الخبر من "البكوات" فينعم عليه الوالى بلقب "باشا"، وعلى هذا الأساس شهدت قصة موت سعيد، وصعود إسماعيل إلى الحكم تدبيرا ومؤامرة وكان طرفها "بسى بك" مدير المخابرات التلغرافية.
وفقاً لما يذكره "الأيوبى"، فإن "بسى بك" لم يغادر عمله ثمانى وأربعين ساعة ليحمل خبر وفاة "سعيد باشا" الذى سيكون بشرى لـ"إسماعيل باشا" كى يصعد إلى سدة حكم مصر، غير أن النوم غلبه بعد يقظته الكاملة طوال الـ48 ساعة، فاستدعى أحد صغار موظفى مصلحته، وأمره بالجلوس إلى جانب عدة التلغراف حتى ينام قليلاً، وشدد عليه أن يقوم بإيقاظه فور تلقيه إشارة من الإسكندرية تفيد بانتقال سعيد باشا إلى "دار البقاء"، ووعده بجائزة قدرها خمسمائة فرنك مقابل ذلك، فأظهر الموظف الصغير انصياعه إلى أوامر رئيسه، وذهب "بسى بك" إلى النوم بملابس العمل وهو مطمئن إلى مخططه.
كان الموظف يعلم تماماً مقدار الجائزة التى ستعود على من يحمل الخبر الذى ينتظره "إسماعيل باشا"، ولهذا دبر أمره وعقد عزمه على أن يفوز هو بها، وطبقا لـ"الأيوبى"، فإنه فى منتصف الليل بين انفراد عشر والثامن عشر "مثل هذا اليوم" من شهر يناير عام 1863 "وردت من الإسكندرية الإشارة البرقية المنتظرة حاملة خبر وفاة "سعيد باشا" فحملها الموظف الصغير مسرعا إلى سراى الأمير "إسماعيل" وطلب المثول بين يديه، وكان إسماعيل جالساً فى قاعة استقباله، يحيط به رجاله وتسامره هواجسه، فلما رفع إليه طلب ذلك الموظف أمر بإدخاله حالا، فدخل وأحدقت به أنظار الجميع".
يصف "الأيوبى" المشهد فى السراى فور دخول الموظف: "جثا الرجل أمام إسماعيل باشا، وسلمه الإشارة البرقية الواردة، فقرأها إسماعيل، وما إن اطلع على ما فيها، إلا ونهض والفرح منتشر على محياه، فوقعت الإشارة من يده، وشكر الله بصوت عالٍ على ما أنعم به عليه من رفعة إلى سدة مصر السنية، ثم ترحم على عمه سعيد باشا ترحما طويلاً، فشاركه رجاله المحيطون به فى فرحه، وتصاعدت دعواتهم له بطول البقاء ودوام العز وأخذوا يهنئونه، ويهنئ بعضهم بعضا".
انتظر "الموظف الصغير" النعمة التى سيحصل عليها، وحسب "الأيوبى": "نظر إسماعيل إلى الموظف الجاثى أمامه والذى كان قد التقط الإشارة البرقية حالما وقعت من يد مولاه، ووضعها فى جيبه وتبسم وقال: انهض يا بك، وبعد أن حباه نفحة من المال أذن له بالانصراف".
خديو مصر.. أبو السباع
فى عام 1871 اكتمل بناء كوبرى قصر النيل بالقاهرة، الذى أمر بإنشائه الخديو إسماعيل، واختير لتصميم الكوبرى أربعة سباع، تم تصنيعها من البرونز، فصار الكوبرى الذى كان يحمل اسم الخديوى إسماعيل يعرف بين المصريين بكوبرى ( أبو السباع) ".
ويضيف "بينما تكلف بناء الكوبرى 113 ألفا و850 جنيها مصريا، تكلفت تماثيل السباع الأربعة 198 ألف فرنك وعكف على تصنيعها المثال الفرنسى أوجين جليوم والمصور جان ليون، ونقلت هذه التماثيل إلى الإسكندرية بعد تصنيعها بفرنسا، ومنها إلى موضعها الحالى على مدخلى كوبرى قصر النيل، وبلغ ثمن تكاليف شحنها إلى الإسكندرية ما يعادل 8 الآف و425 جنيها مصريا".
العزل والنفى والموت
جاء نص التلغراف من الأستانة بعزل الخديو إسماعيل "إلى سمو إسماعيل باشا خديو مصر السابق، إن الصعوبات الداخلية والخارجية التى وقعت أخيراً فى مصر قد بلغت من خطورة الشأن حداً يؤدى استمراره إلى إثارة المشكلات والمخاطر لمصر والسلطنة العثمانية، ولما كان الباب العالى يرى أن توفير أسباب الراحة والطمأنينة للأهالى من أهم واجباته ومما يقضيه الفرمان الذى خولكم حكم مصر، ولما تبين أن بقاءكم فى الحكم يزيد المصاعب الحالية، فقد أصدر جلالة السلطان إرادته بناء على قرار مجلس الوزراء بإسناد منصب الخديوية المصرية إلى صاحب السمو الأمير توفيق باشا، وأرسلت الإرادة السنية فى تلغراف آخر إلى سموه بتنصيبه خديوياً لمصر، وعليه أدعو سموكم عند تسلمكم هذه الرسالة إلى التخلى عن حكم مصر احتراماً للفرمان السلطانى".
ثلاثة أيام أمضاها إسماعيل فى الاستعداد للسفر، وجمع كل ما استطاع من المال والمجوهرات والتحف الثمينة من القصور الخديوية، ونقلها إلى اليخت ( المحروسة )، وهى الباخرة نفسها التى أقلته من قبل مراتٍ عدة إلى سواحل أوروبا وهو فى قمة المجد ، ولأن السلطان العثمانى رفض استقبال الخديو المخلوع فى الآستانة فقد غادر اسماعيل مصر يوم 30 يونيو سنة 1879 متجهاً مع زوجاته وحاشيته من الإسكندرية إلى نابولي، وهى المدينة نفسها التى استقبلت حفيده فاروق فى 26 يوليو تموز 1952، لم ييأس إسماعيل، وظل يرسل التماساً وراء الآخر من منفاه فى أوروبا، حتى تعطّف السلطان عبد الحميد الثانى أخيراً ووافق على حضوره للآستانة التى انتقل اليها عام 1888 للإقامة بقصر إميرجان المطل على البوسفور.
وبعدما قضى نحو 16 عاماً فى منفاه ، لم يعد إسماعيل إلى مصر إلا ميتاً، حيث دُفِنَ فى مسجد الرفاعي، وإذا كان إجمالى ديون عهد إسماعيل باشا بلغ 91 مليون جنيه، فإنه ظل حتى وفاته ينعم بلقب أغنى رجال مصر.