ربما لا تحمل رواية "الجمل الأبيض" للصينى قراى لايتشموجى هايخى ملامح روائية معتادة، تدور حول ذروات درامية تصنعها اختلافات المنظور بين البشر، كما فى الأدب الروائى العام، ولا ذلك الصراع الأسطورى بين البشر وخطوط المصائر، مثلما فى التراجيديات الإغريقية الأخاذة.
غير أن رواية الكاتب الصينى (من أصول منغولية)، التى صدرت عن سلسلة الجوائز فى الهيئة العامة للكتاب، مؤخرًا، رواية تعنى بـ"شعرنة" التفاصيل (دفق الشعرية فيها)، و"أَسطرة" الحدث (منحه أبعادا أسطورية).
فالرواية، فى المورال/البلوت/الحبكة العامة ليست أكثر من رصد لحياة المراعى المنغولية؛ وبدائلها اليومية فى مكابدة الحياة والتحايل على مآزقها، من خلال قصة جمل صغير ولد فى لحظة فارقة عندما هاجمت الذئاب أمه.
والإبل الوحشيَّة لا تركع على ركبتيها مثل الإبل الـمُستأنسة لكى تتيح للبشر الجلوس على سنامها. ولهذا السَّبب أطلق الرُّعاة على هذا الـجَمل لفظ "البرِّيِّ"، لأَنَّها أكثر وحشيَّةٍ مقارنةً بالإبل الموجودة فى المراعي.
وهو مثل باقى ذكور الإبل، فى أَيَّام الشِّتاء، وعندما يأتى موسم التَّزاوج، وتحت تأثير الهرمونات الذُّكوريَّة القويَّة، تبدأ عيناه فى الاحمرار، وتنبعث من الفم رغاوى بيضاء. ثُمّ يدور، بعد ذلك، فى المنطقة الخاصَّة به لكى يظهر أمام الإناث، ولا يجعلها تغيب عن ناظريه. وتهاجم باقى الذُّكور الذُّكورَ الأخرى الَّتِى تحاول الاقتراب من الإناث فقط. لكنَّ ذلك الذَّكر الأبيض الضَّخم يتصرَّف على نحوٍ أكثر تطرُّفا. وتصير عيون الإبل حمراء كما لو كان الدَّم سينفجر منها، ويشعر كُلٌ منها بأن أنثاه مرغوبةٌ من كُلِّ كائنٍ حيٍّ. ويهاجم، بالتَّالي، أى كائنٍ كان فى محيط نظره، سواءً أكان حصانًا أَمْ بقرةً أَمْ حَتَّى راعيًا يركب فرسه. حَتَّى الذِّئاب الَّتِى تبثُّ الرُّعب فى نفوسِ رعاة البراري، ما إِنْ تظهر الإبل فى خط الأفق حَتَّى يهرب كل منها بحياته. فالذِّئاب -الَّتِى يظنُّ النَّاس أَنَّها تفوق أسرع فرسٍ فى البرارى -ليست ندًّا لتلك الإبل المجنونة، لأنَّ تلك الذُّكور على ما لديها من صبرٍ رهيبٍ، لو قرَّرت فقط أَنْ تطارد شيئًا، فسوف تستمرُّ فى مطاردته إلى الأبد، ولو ذهب إلى آخر العالم."
هذا الجمل، الذى كان أسطوريا أبيض، وغرائبيا أبيض، ووحشيا أبيض، يتشائم الرعاة جميعهم من لونه إلا واحد، جا بو، الذى استبشر بالجمل الأبيض، بل وتجاسر على زيارته فى موسم التزاوج، عندما لا تورد الإبل.
فى ريفنا فى الصعيد ثمة إشارة إلى الـ بَوّ، كتعبير يتم استخدامه لأغراض متعددة، أحدها هو ثقل الموصوف بهذا التعبير، وربما جموده، ووجوده دائما حيث لا ينبغى أن يكون، مُصَدَّر مثل الـ بَو، أو لا جدوى له ككائن عاقل، أو ليس سوى بَوّ.
والـ بَوُّ، فى الأساس، هو سقط الجاموس وجهيضته. فعندما تجهض الجاموسة ينتابها عَرضٌ نفسى مدهش، إذ ينقطع اللبن منها، ولا تصلح للحلب.
ولكى يتجاوز أصحاب المراعى ذلك العرض الطارئ يلجأون إلى سلخ السَّقَط، وحشوه بما يتناسب من تبن فى العادة، لكى تظن الجاموسة أنها ولدت طفلا يحتاج إلى حليبها، وتدرُّ.
فى "الجمل الأبيض" لم تعترف الناقة بابنها، الذى ولدته فى هجوم الذئاب، أو هى لم تتعرف عليه، فرفسته فى اللحظة التى أراد ثديها.
لكن قراى لايتشموجى هايخى استخدم هذا الموقف الرعوى المدهش فى الحفر فى تفاصيل المراعى المنغولية، لكى يعيدنا إلى تفصيلة منغولية أخرى هى "كمان رأس الحصان" الذى تكون علبة الصوت فيه، فى العادة، من جماجم الأحصنة الشجاعة، التى يمنح دهنها المستمر الأوتار روحًا باكية، تحنِّن الجمل والناقة، فى مشهد ساحر للغاية.
أقبل الليل، وأشعلت زوجة "جا بو" نارًا محدودةً من روث البقر الجافِّ. واستمرَّت تواسى بأغانيها الصِّغار المتروكين من أُمَّهاتهم، واكتشف "جا بو" أَنَّ تأثير النَّار الموقدة فى الظَّلام هو الأفضل، الظَّلام يغطِّى كُلَّ شيءٍ بلا استثناء، مما يلغى أثر البيئة المحيطة على أُمَّهات الصِّغار.
جلس "جا بو" القرفصاء صامتًا حول النار، وبدأ يحرِّك محور الكمان، فأطلقت الآلة صوت احتكاكٍ جافٍّ، وأطلقت الأوتار أنَّةً بصوتٍ أجشَّ. كرَّر العمليَّة ثانيةً بصبرٍ، وأخذ صوت الكمان يصفو تدريجيًا، وبدا "جا بو" كما لو كان يشعر ببعض الرِّضا تجاه محاولاته فى العزف. ضيَّق عينيه، وغاص فى صوت الكمان العميق الموحش.
جلست زوجة "جا بو" أيضًا حول النَّار. ووقف الجمل الَّذِى بدا رماديًا فى الإضاءة الخافتة بجانبها. وعندما حاولت أَنْ تلمسه، اضطرب فى ذعرٍ، فهو لَمْ يتأقلم بعد على لمسات البشر، ولَمْ يعرف، بطبيعة الحال، أَنَّ مصيره على وشك أَنْ يتغيَّر. وعلى الرَّغم من أَنَّه بدا ضعيفًا بسبب حرمانه من اللبن المغذي، فإِنَّ عينيه الواسعتين المضطربتين ذاتا الأهداب الطَّويلة لم تتحوَّلا عن التَّحديق فى أُمِّه الكائنة بجواره.
ولَمْ يكن يعرف ما ينتظره.
ليعرض هايخى بعدها، فى مشاهد منظومة بعناية كيف كان الجمل الأبيض شاهدا على ملامح التغيير ومساحات الخروج المتسارع من حياة المرعى، بما تحمله من صفاء ووضوح وسكينة، إلى احتمالات المدن، وضوضائها العبثية للغاية.