صدر ضمن سلسلة "تاريخ المصريين"، كتاب متميز من تأليف الدكتور رضا أسعد شريف تحت عنوان "أعيان الريف المصرى فى العصر العثمانى"، هذا الكتاب إذا قرأته بدقة تستطيع أن تجدر سطوة بعض العائلات فى ريف مصر، ثم فى القرن التاسع عشر والعشرين سطوتهم فى الحياة العامة.
المؤلف الدكتور رضا شريف، قدم لنا ملامح هامة فى كتابه، ففكرة زواج المال بالسلطة فكرة قديمة، حيث يذكر أن الأوضاع الاقتصادية للأعيان انعكست على حياتهم الاجتماعية، حيث كان لعلاقاتهم التجارية الوثيقة مع تجار المدن، وتنقلاتهم بين الريف والمدينة انعكاسه الواضح على روابطهم الأسرية، كما أن علاقتهم الاقتصادية بالملتزمين "رجال السلطة جامعى الضرائب"، أيضاً وثقت من الروابط الأسرية فيما بينهم، ومن ناحية أخرى فإن نشاطهم التجارى بالريف والمدينة كان له انعكاس على حياتهم الاجتماعية، وهو ما يبين أن الأعيان لم يكونوا منغلقين على أنفسهم اجتماعياً واقتصادياً بالريف، فمثلاً تزوج الأمير حسن بن الأمير سليمان جاويش ديوان مصر بمخطوبته سيدة الأعمام البكر ابنة شيخ العرب منصور بن نور الدين شيخ مليح بالمنوفية على صداق 6400 نصف فضة، ويرى المؤلف أن الصداق المدفوع للعروس خلال هذه الفترة عام (1038هـ/1628م) المستقرة نسبياً فى الأوضاع النقدية يتضح منه مدى الوضعية الاقتصادية والاجتماعية لأسرتها التى تجذب أمير بديوان مصر ليرتبط بها.
هذا يكشف عن أن الأعيان قاموا بالزواج من أبناء العسكر واستغلال نفوذهم لتحقيق مصالح اقتصادية خاصة بهم على كافة المستويات الإنتاجية خاصة استغلال أراضى الأوقاف.
ومن العائلات التى درسها المؤلف بعناية، عائلة أبو قورة، تُعد هذه العائلة من العائلات الكبيرة المتشعبة فى مناطق مختلفة داخل الدقهلية وخارجها، فهناك فرع بميت العامل وآخره بالمنزلة، بالإضافة لوجود فرع تولى مشيخة أتميدة بميت غمر فى بعض سنوات القرن السابع عشر، وانتقل فرع آخر من المنزلة للقاهرة، والفرع الجدير بالدراسة هنا الموجود بميت العامل لكونه مشايخها ومهيمن على ميت العامل على مدار القرن الثامن عشر والفترة التالية له، ويعد مصطفى ومنصور أولاد على أبو قورة من أبرز أعيان العائلة.
والجدير بالذكر أن عائلة أبور قورة تنتمى للقبائل البدوية المتوطنة، وبالتالى انعكست طبيعتها البدوية على ردود الأفعال العنيفة من قبل بعض الأعيان العائلة تجاه بعض الأحداث الصادرة من قبل الأفراد والجماعات، وامتدت سيادة عائلة أبو قورة الإدارية لمناطق أخرى أيضاً، فمثلا العائلة مشيخة قرقيرة بالدقهلية فترات من القرن الثامن عشر، ومن ناحية أخرى فرضت الطبيعة نفسها على نشاط العائلة، حيث عمل أعيانها على اقتناء الجياد والاستثمار فيها عن طريق البيع والشراء.
وعلى صعيد آخر فرض البعد المكان لميت العامل عن المنصورة نفسه على علاقات العائلة التجارية والعقارية بالمدينة، حيث كثفت جهودها فى شراء عقارات بميت العامل، كما ظهر أيضاً الانعكاس السلبى لبعد القرية على المعاملات النقدية فى بعض الفترات، والاستنتاج الحتمى أن العائلة والقرية بصفة عامة اتجهت فى غالبية معاملاتها لطريقة الاستبدال (المعاملات العينية)، فنادراً ما تصادف الدراسة معاملات موثقة لأهالى ميت العامل مقارنة بميت حضر أو سندوب مثلاً، فعلى سبيل المثال "اشترى عين أعيان شيخ العب على أبو منصور أبو قورة شيخ ميت العامل بالدقهلية من على الأعسر شيخ ميت العامل بوكالته عن خديجة ابنة محمد دار بمبلغ 2 أردب قمح و3 ريال بطاقة " (تعادل 270 نصف فضة)، وكان بجانب هذه الدار قطعتين أرض، جعل أحدهما حديقة ملحقة بالدار والأخرى جعلها ساقية لاستخراج الماء لمليء ميضاء المسجد كعمل من أعمال الخير.
وتميزت عائلة أبو قورة أيضاً بتولى أكثر من فرد من العائلة المشيخة بالقرية فى وقت واحد، وهو ما يؤكد مدى تقدير الإدارة لنفوذ العائلة وسيادتها على القرية، وعلى الجانب العقارى تركز نشاط العائلة فى شراء عقارات بالقرية بشكل أكبر نظراً لبعدها النسبى عن المنصورة، ومن أبرز أعيان العائلة فى شراء العقارات بميت العامل على أبو منصور أبو قورة، وعلى الجانب الأمنى فرضت قوة العائلة نفسها على الإدارة التى لجأت إليها لحفظ الأمن بالمناطق المجاورة لها بالدقهلية، فمثلاً كان شيخ العرب محمد بن على أبو منصور أبو قورة "شيخ مشايخ عربان الساحل بولاية الدقهلية".
وكذلك عائلة طوبار التى تُعد من أهم العائلات التى أقامت بالمنزلة وتقلدت مشيختها فى القرن الثامن عشر، فضلاً عن تولى بعض أفرادها مشيخة منية الطيب بضواحى دمياط وكفر البطيخ التابع لشربين بالغربية فى بعض الفترات، وقد نالت هذه العائلة أهميتها من خلال تقلدها مشيخة منطقة ذات أهمية من الناحية الإنتاجية.
وعائلة طوبار هى العائلة التى تتقرب إليها جميع العائلات فى المناطق المختلفة، كما أنها أيضاً العائلة التى تلجأ إليها الإدارة (فى بعض الفترات) لضمان الاستقرار الأمنى فى المنطقة الممتدة بطول الضفة الشرقية للنيل من دمياط إلى المنصورة بالتعاون مع بعض أعيان القرى المجاورة، وبجانب المنزلة تولت العائلة مشيخة منية حضر المجاورة للمنصورة فترات من القرن الثامن عشر، وهكذا يتضح تشعب دور العائلة الإدارى فى ريف المنصورة، المنزلة (مسقط رأس العائلة)، ضواحى دمياط وتوابع الغربية القريبة من دمياط.
وعلى صعيد آخر فإنه لعظم شأن العائلة وكبر حجمها انتقلت مجموعة منها لمنطقة مجاورة للمنزلة أطلق عليها فيما بعد عزبة الطوابرة نسبة لعائلة طوبار، وعلى الجانب الاجتماعى تبين عند وفاة أحد أعيان العائلة وهو سليمان بن حسن طوبار أنه متزوج من 9 نساء منهم 4 على ذمته والباقى مطلقات، وقد انجب ابناء بلغ عددهم 13، منهم 5 إناث والباقى ذكور، وكان الواصى عليهم عقب وفاة والدهم أخاهم محمد من أعيان المنزلة الذى تولى تصريف شئون أخواته، وفى اليوم التالى مباشرة حصل أخوه محمد على نصيبهم من تركة والدهم المالية، وقد بلغ نصيبهم 31000 نصف فضة.
وقد حظيت عملية استبدال الأوقاف بنصى كبير من اهتمام العائلة، فكثيراً ما استغل أعيانها لجوء نظار بعض الأوقاف لاستبدال عقاراتها مقابل أموال، وبالتالى نظر أعيان العائلة للأوقاف المستبدلة على انها صيداً ثميناً يجب اقتنائه، ومن أشهر أعيان العائلة فى هذا المجال محمد طوبار، وبجانب محمد طوبار تولى أخيه سليمان بن حسن المشيخة، مما أكسب العائلة دعامة أكبر فى ممارسة نشاطها على كافة المستويات.
ومن الأهمية بمكان أن بعض أعيان العائلة كان لهم استثمار فى بيع وشراء المنازل فى نهاية القرن الثامن عشر بدمياط، تزامناً مع الاتجاه العام للاستثمار فى العقارات فى ظل فترات الكساد التجاري، ومن أبرز هؤلاء الأعيان محمد بن حسن طوبار وحسن وجلبى (شلبي) أولاده، ويبدو من خلال الوثائق أن اسم حسن كان شائعاً فى العائلة، وأبرز من لقب بهذا الاسم حسن بن حسن طوبار، الذى تزعم حركة مقاومة الجيش الفرنسى فى المنزلة ودمياط.
الكتاب يُعد سجلاً ممتازاً نعتبره مقدمة جيدة لتوثيق تاريخ العائلات فى مصر، ساعد المؤلف على هذا استعانته بسجلات المحاكم الشرعية العثمانية فى مصر وهى سجلات كاشفة.