يحمل البحر وجوهًا عدة، فهو يشكل البحر ملاذًا للبشر الهاربين من حريق الصيف وفى الوقت نفسه ملهم دومًا للعديد من الكتاب والمبدعين سواء فى الغرب أو فى الشرق.
وفى كتاب جديد صدر بالإنجليزية فى لندن بعنوان: "وجدت قبيلتى" يبدو البحر هو "المنقذ والمخلص والعزاء" فى نظر المؤلفة روث فيتسموريس التى تعانى من صدمة عائلية جراء محنة مرض خطير يهدد زوجها بالموت فتتجه لمياه البحر الأيرلندى الباردة.
وعبر صفحات الكتاب كسيرة ذاتية اتخذت قالب القصة المؤثرة والحافلة بألوان الوجد والشجن والبحث عن العزاء كما تقول الناقدة لارا فيجل فى صحيفة الجارديان البريطانية يمكن للقارئ أن يشعر بلذة النص وهو يتناول هذا الحوار الأبدى بين الإنسان والبحر.
وواقع الحال أن روث فيتسموريس تعرضت لمحنة عائلية منذ العام 2008 وهى فى الثانية والثلاثين من عمرها عندما كشفت الفحوص الطبية لزوجها المخرج والمؤلف السينمائى سيمون فيتسموريس عن إصابته بمرض نادر فى الجهاز العصبى يسمى "بمرض العصبون الحركى" ويؤدى لتلف الخلايا العصبية الحركية.
وفى خضم هذه المحنة وجدت روث فيتسموريس نفسها المسئولة عن عائلة تضم ثلاثة أبناء صغار بينما كانت المسيرة الواعدة لزوجها كمبدع فى الفن السابع تتوقف بفعل هذا المرض النادر .
وإذ توقع الأطباء ألا يبقى المخرج والكاتب السينمائى سيمون فيتسموريس على قيد الحياة اكثر من سنوات قليلة كانت زوجته روث فى المقابل تراهن على شحذ إمكاناته الإبداعية كسبيل للحياة ودفع غائلة الموت المبكر كما لم تكف عن التوجه للبحر يوميا لتلقى بنفسها بين أمواجه كسبيل لعلاج صدمتها.
والمثير للتأمل أن روث فيتسموريس راحت تصطحب صديقتين تعانيان بدورهما من محن عائلية ليلقى الجميع بأنفسهم بين أمواج البحر لغسل الهموم حتى فى أيام الشتاء فيما أطلقت على هذه الثلة اسم: "نادى السباحة للزوجات المكلومات".
إنها "القبيلة الجديدة" التى وجدت فى البحر نوعا من العلاج للآلام بقدر ما تجمع المياه بين أفراد القبيلة فى نوع من "الأنس والونس والألفة" بين بشر يتواصلون معا كما يتواصلون مع البحر ليعود كل منهم لقبيلته الأصلية مزودًا بعتاد روحى جديد لمواجهة المحن بجسارة مهما بلغت هذه المحن من مد أليم كما فى حالة روث فيتسموريس التى وجدت زوجها المبدع والمفعم بالحياة والطموحات يتحول فجأة إلى شخص عاجز عن الحركة ولا يمكنه التواصل إلا بحركة عينيه .
ويتضمن الكتاب سردًا شجيًا لهذه الكاتبة وهى تتحدث عن البحر الذى تناجيه وهى بين أمواجه فينتزع الخوف من أعماقها الجريحة ويمنحها جسارة فى مواجهة محنة زوج يحتضر وأمسى على شفير الرحيل وكأن البحر فى عنفوانه يهب نفسها المتألمة الحياة التى تدحر الموت وتجابه آلام الفقد.
ومن قبل كانت الكاتبة البريطانية ايمى ليبتروت قد اصدرت كتابا بعنوان "التجاوز" فى عام 2016 وهى تتحدث فى هذا الكتاب عن تجربتها الخاصة للعلاج من محنة ادمان الكحوليات عبر السباحة يوميا فى مياه المحيط الأطلنطى قبالة شاطئ بلدتها الاسكتلندية "اوركنى" وقد فاز بجائزة افضل كتاب بريطانى عن الطبيعة.
أما الكاتبة والناقدة الثقافية البريطانية اوليفيا لينج فقد اصدرت فى عام 2011 كتابا بعنوان :"إلى النهر" وتتناول فيه "التواصل بين الإنسان والماء كسبيل لإعادة تمركز الذات الإنسانية المأزومة حول بؤرة جديدة يمكن أن تمنح للبشر عالما مختلفا عن عالمهم الزاخر بالمتاعب" وهذا العالم الجديد من التواصل الحميم بين البشر والمياه أقرب فى نظرها للذات الإنسانية.
والصحافة الغربية تتحدث أيضًا عن الكاتبة "جيسيكا لى" التى مضت تسبح بين بحيرات برلين كأفضل وصفة فى اعتقادها لعلاج الاكتئاب فيما كانت الكاتبة والناقدة الأدبية البريطانية الراحلة ريبيكا ويست قد عدت السباحة متعة لا تضاهيها متعة وكتبت عن العناق بين الإنسان والبحر كمعادل للحرية الإنسانية التى تبغض القيود.
ومن الطريف أن بعض النقاد فى الصحافة الثقافية البريطانية مثل روس جورج أطلقوا على هذا النوع من السرد الذى يجمع ما بين السيرة الذاتية والبحر وصفا جديدا لنوع أدبى هو: "سير البحر" والملاحظ فى السرد الثقافى الغربى أن أغلب أصحاب هذا النوع من الكتابة من النساء.
غير أن السرد الثقافى العربى فى هذا النوع بالمقابل يكاد يكون "ذكوريا" فى أغلبه ويتمحور فى مصر غالبًا حول الإسكندرية عروس البحر المتوسط.
وها هو الكاتب والروائى المصرى محمد جبريل الذى ولد فى السابع عشر من فبراير عام 1938 بالإسكندرية وأنتج عبر مسيرته الابداعية أكثر من 50 كتابا يقول: "أتمنى أن أظل أكتب وأكتب بينما نظراتى تتجه إلى البحر".
ويوضح جبريل أن البحر عنده هو الموطن والطفولة والنشأة والذكريات الملتصقة بلحم الجسد فيما يستشهد بمقولة فحواها انه كلما اقترب الإنسان من البحر المتوسط ازداد تشبثه بالحياه، وكلما ابتعد عنه هان عليه الموت.
وإذا كانت "إسكندرية محمد جبريل" تختلف عن "إسكندرية إدوار الخراط" الذى هام فى "ترابها الزعفران" فهى تختلف أكثر عن صورتها عند البريطانى لورانس داريل صاحب "رباعية الإسكندرية" والذى يوصف بـ"عوليس العصر الحديث" وهو العمل الروائى الكبير الذى ظهر أول مرة بالإنجليزية والفرنسية فى نهاية الخمسينيات وبدايات الستينيات من القرن العشرين.
وولد لورانس جورج داريل عام 1912 وتوفى عام 1990 ومع أن إبداعاته تعددت كروائى وشاعر وكاتب لأدب الرحلات فان شهرته ذاعت بفضل رباعية الإسكندرية على وجه التحديد بينما استمرت الإسكندرية ببحرها تلهم المبدعين فى الغرب وتزين عناوين الكتب ومن بينها مجموعة شعرية اختار مؤلفها البريطانى أن يستلهم مددا من روح عاشق يونانى لتلك المدينة المصرية ذات الطابع العالمى وهو الشاعر اليونانى الراحل قسطنطين كفافى.
وكفافى الذى ولد عام 1863 وقضى فى عام 1933هو بحق أحد البنائين العظام لصورة الاسكندرية فى المخيال الثقافى العالمى وهو المثقف الكبير الذى يعبر بدقة عن مدى التواشج بين الإسكندرية وأثينا.
ومن ثم فان القاص والشاعر البريطانى لويس دى بيرنيريه- الذى يوحى اسمه كما لو كان من اصل فرنسي-قد اختار لكتابه الذى صدر بالإنجليزية عنوان:"مخيال الإسكندرية..قصائد لذكرى كفافى".
ولويس دى بيرنيريه حريص دوما على ان يعرف نفسه بأنه "شاعر قبل وبعد كونه قاصا" موضحا ان الشعر كان منبع الهامه الروائى ومحركه فى مسيرة الحكى وتعد مجموعته الشعرية اول ديوان ينشره وقد نذره لتكريم قسطنطين كفافى ذلك الشاعر اليونانى الذى عاش فى الإسكندرية واقترن بها أغلب سنوات العمر واحتواه ثراها .
وفى صحيفة (الأوبزرفر) البريطانية..قالت الناقدة كاتى كيلاواى أن لويس دى بيرنيريه يبدو مفتونا بالشاعر الذى كان مفتونا بدوره بالإسكندرية وبحرها ليخرج القارئ فى نهاية المطاف راضيا مرضيا وتلك سمة الإبداع الحق.
وقد سبق أن سأل الباحث الأيرلندى تيم سيفرن حول حكايات السندباد البحرى ورحلاته السبع وماذا كانت كلها من نسج الخيال أو أنها يمكن أن يكون وراؤها لون من ألوان المعرفة الواسعة من أسرار بحار العالم من جانب الامبراطورية الإسلامية فى زمن تلك الحكايات الخالدة فى الأدب العالمى.
ولعل حكايات السندباد وعروس البحر القادمة من الشرق كانت حاضرة فى ظاهرة غربية جمعت مؤخرا ما بين الخيال والطرائف والمكاسب الاقتصادية وتحدثت عنها الصحافة الثقافية الغربية والأمريكية على وجه الخصوص.
إنها "ثقافة عروس البحر" كما تحدثت عنها الصحافة الغربية وتجولت "داخل اقتصاد عروس البحر" كواقع ملموس يتجاوز مشاعر مبهمة كانت تعبر عنها مقولات مثل "نداهة البحر".
وها هى كاتبة رصينة وذات اهتمامات عميقة بقضايا السياسة الخارجية فى الولايات المتحدة مثل اليزابيث سيجران تقول للقاريء :" ليس من السهولة بمكان ان تقوم بدور عروس البحر وما عليك سوى أن تسأل راشيل سميث التى تقوم بدور كبيرة حوريات الماء كل ليلة فى رحاب موئل انيق لفنون الغطس بمدينة ساكرامنتو" بولاية كاليفورنيا الأمريكية.
والمثير حقا أن راشيل سميث تقدم هذا العرض مع 12 مرؤوسة لها من عرائس البحر فى حوض زجاجى بعمق 40 قدما ومكتظ بالأسماك التى تسبح وسط 7500 جالون من الماء المالح فيما تصف سميث التى بدأت العمل فى هذا المكان الغريب منذ مطلع عام 2011 عملها "بالحلم الذى تحول إلى حقيقة" .
وترى "عروس البحر راشيل سميث" أن التحول إلى كائن مائى أسطورى له تحدياته وهى مهمة صعبة وأصعب ما فيها أن تؤدى بصورة لا يشعر الناس بصعوبتها فيما السيقان مضمومة مربوطة معا والأسماك تتجول ما بين عرائس البحر البشرية فى ظلمات ما تحت الماء.
وإذ يصل وزن ذيل عروس البحر البشرية فى هذا الموئل الأمريكى لفنون الغطس إلى 35 رطلا فإن الماء المالح يجعل العروس تطفو فإذا بها مطالبة بأن تتحمل وزنا إضافيا قد يصل إلى عشرة أرطال فى صورة سير جلدى تتمنطق به مابين ساقيها.
ورائدة مهنة عروس البحر فى الولايات المتحدة تدعى ليندن ولبيرت وقد بدأت فى مسيرتها الاحترافية تحت الماء منذ نحو عقد واحد فيما تقول عن نفسها أنها "صاحبة ذهنية مفتونة بالماء" وهى ببساطة اختارت العمل فى المجال الذى تعشقه وهذا المجال فتح لها آفاقا رحبة لتقديم عروضها فى منتجعات وفنادق وحتى فى حفلات الزواج ناهيك عن حفلات أعياد الميلاد للأطفال.
ورغم صعوبة العمل فإن مهنة عروس البحر جذبت أعدادا جديدة لأنها تحظى بإقبال كبير من الجماهير والطريف أن المسألة لم تعد قاصرة على الإناث فهناك أيضا ذكور لهم أن يقوموا بدور "عرسان البحر" فيما يقدر عدد العاملين من الجنسين بهذه المهنة بدوام كامل واحترافى فى صالات الألعاب المائية بالولايات المتحدة بنحو الف شخص.
وهكذا ظهر فى الولايات المتحدة مصطلح جديد وطريف هو مصطلح "اقتصاد عروس البحر" كعلامة على ازدهار اقتصادى لا ريب فيه ونجاح تجارى يجذب المزيد لخوض غمار المهنة الغريبة تحت الماء وبحكم طابع الحياة الأمريكية المولعة بالتقاليع والغرائب مضت بعض الشركات فى صنع زعانف وذيول لآلاف الهواة المتطلعين للقيام بدور عروس البحر ولو على سبيل الهواية بعيدا عن المسارات الاحترافية.
وسرعان ما افتتحت فصول دراسية لتدريب حوريات وعرسان البحر لتضخ المزيد من الدماء فى شرايين "اقتصاديات عروس البحر" بينما باتت نماذج الألعاب المستوحاة من عروس البحر فى متاجر الهدايا موضع اقبال جماهيرى كبير وطلب واضح.
وفيما تشكل رائعة "موبى ديك" الصادرة عام 1851 للكاتب الروائى الأمريكى هيرمان ملفيل واحدة من عيون الأدب العالمى التى تدور حول صراع تراجيدى بين الحوت والإنسان فإن "اقتصاد عروس البحر المزدهر" يعكس قوة الحلم الانسانى الذى يداعب البعض للحياة تحت الماء أو "سحر النداهة وفتنة نداءات البحر" بينما يبقى "اكتساب هوية عروس البحر والتماهى معها لحد التوحد" شرطا ضروريا لمن يريد التألق فى تلك المهنة.
ومع الازدهار الاقتصادى والإقبال الجماهيرى ظهر مصطلح "ثقافة عروس البحر" فى الولايات المتحدة لتنضم تلك الثقافة الجديدة لثقافات ترفيهية راسخة هناك مثل "ثقافة البوب" بقدر ماتعكس "الهوس بالحياة تحت الماء" وتعبر عن تجلياتها فى افلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية جديدة.
وإذا كانت "مدارس عرائس البحر" قد امتدت من الولايات المتحدة وهاواى إلى الفلبين واسبانيا لتدريب البشر المولعين بالحياة تحت الماء كما تقول الكاتبة اليزابيث سيجران فمن بمقدوره استبعاد رؤية هذه المدارس فى يوم غير بعيد بمصر والعالم العربى على وجه العموم ؟!.
و"نداهة البحر" حاضرة بقوة فى إبداعات وذكريات الكثير من المثقفين المصريين مثل الراحلة العظيمة الدكتورة عائشة عبد الرحمن التى لقبت "ببنت الشاطىء" فيما شبت عن الطوق ببلدتها دمياط ما بين هدير البحر المالح وعذوبة ماء النيل الخالد.
وفى كتابها الذى صدر بعنوان دال :"على الجسر" تحدثت بنت الشاطيء عن "نداهة البحر وحكايات الجن والغرق" وولعها فى طفولتها بالسفن الشراعية رغم قلق أمها لأن البحر اختطف من قبل جدة الفتاة الصغيرة التى ستتحول فيما بعد لعلم من اعلام الثقافة المصرية والعربية المعاصرة.
ومن يتأمل أعمال المبدع المصرى صبرى موسى وهو بدوره من مواليد محافظة دمياط سيلحظ دون عناء شغفا بالبحر والبحيرات فى عديد من مجموعاته القصصية ورواياته وكتبه حتى فى رائعة "فساد الأمكنة" حيث تلتقط الرواية روح الوجود العصية فى تراسلاتها ما بين الإنسان والجبل والصحراء والبحر.
وفى هذه الرواية لصبرى موسى بأجوائها الأسطورية يجد القارئ نفسه ضمن اساطيرها مع "عبد ربه كريشاب وعروس البحر التى خطفت اخاه وابن عمه وابن خاله " ويستمع لقسمه بأخذ الثأر من "عروس البحر التى تصنع احبولتها من ماء ونار ودخان".
ولئن كانت رائعة "العجوز والبحر" للكاتب الأمريكى الشهير ارنست هيمنجواى قد عرفت طريقها للشاشة الكبيرة فان عشاق الدراما التلفزيونية المصرية لن ينسوا المسلسل الذى كتبه الراحل الموهوب أسامة أنور عكاشة بعنوان :"وقال البحر" والذى استمده من رواية "اللؤلؤة" للكاتب الأمريكى جون شتاينبك.
والفكرة الأساسية لهذا العمل تتمثل فى عثور صياد فقير على لؤلؤة ضخمة يظن انها الخلاص والطريق للحياة الأفضل فإذا به يتعرض لمشاكل جمة بسببها وإذا به يقوم فى نهاية المطاف بإلقاء اللؤلؤة فى البحر ليستعيد الراحة وهدوء البال !.
هكذا يتحول البحر إلى بحار للخيال وواقع يكافئ الحالمين بعالم أكثر مرحا وأقل تجهما..إنه "الأزرق الفسيح الذى ينادى الإنسان ويمنحه المتعة فى ذروة الصيف" فيما تبقى عروس البحر حلما يراوغ الحالمين على البساط الأزرق الفسيح فى ليالى الصيف!.