أكد الأثرى سامح الزهار المتخصص فى الآثار الإسلامية والقبطية أن الأمم قديما عرفت قيمة العلم وأدركت حقيقة أن التقدم والارتقاء بالبلاد لا يكون إلا عن طريق العلم، وأن أغلب الملوك والسلاطين والخلفاء فى التاريخ الإسلامى اهتموا بحركة العلم والتعليم وإنشاء المدارس واستقطاب أفضل المعلمين فى علوم الدين واللغة والعلوم الفقهية والإجتماعية والرياضيات والفيزياء وغيرها من العلوم التى تسهم فى تقدم الدول وتطورها.
وقال سامح الزهار، إن العصر الفاطمى فى مصر يعد من أهم الفترات وأكثرها اهتماماً بالتعليم وإدراكا لقيمته، حيث اهتم الخلفاء الفاطميون بالعلم والتعليم، وكان عماد ذلك هو المعلم، فلم تقم الدولة بتعيين المعلمين واختيارهم إلا فى بعض الظروف النادرة، لكن كان اختيار المعلم واختباره يكون عن طريق شيوخ العلم، حيث يجب أن يكون من ضمن المتفوقين الذين اجتازوا مراحل التعليم فى حلقاته وعلى يد مشايخه، فإذا أظهر ميلاً لحبه للتدريس اختبره شيوخه.
وأضاف أن المعلم فى زمن الفاطميين حظى بمكانة كبيرة فى الدولة، حتى خصصت الدولة للمعلمين دارا وأوقفت عليه الأوقاف، ويذكر لنا المقريزى المعلم فيقول "إن الخلفاء كانوا يجالسون المعلمين ويشاركونهم أفراحهم وأحزانهم، ويعودونهم إذا مرضوا، ويخرجون فى جنائزهم".
وتابع إن الفاطميين أتاحوا التعليم كحق مشروع لكافة طوائف المجتمع، حتى أن الطالب كان يختار دروسه وأستاذه والفترة الزمنية التى يريد الدراسة فيها، كما كان التعليم يقدم بشكل مجانى، بل كانت الدولة توفر للطلاب المأكولات والمشروبات والكتب والأوراق والأقلام والمحابر، وذلك تيسيرا على الناس، ولتحقيق مبدأ المساواة الاجتماعية، حتى لا تكون هناك تفرقة بين غنى وفقير أو طالب ذو قدرة مالية وطالب فاقد تلك القدرة.
وأوضح أن حلقات العلم وأماكن الدراسة كانت متنوعة، وكان جامع عمرو بن العاص واحدا من أهم أماكن التعلم، ولذلك يقول المقديسى فى وصفه لجامع عمرو (وبين العشائين جامعهم ملىء بحلقات الفقهاء وأئمة القراءات وأهل الأدب والحكمة)، مشيرا إلى أن التعليم فى زمن الفاطميين كان مقسما إلى مراحل، منها المرحلة المبكرة وهى ما تعرف حالياً بالتعليم الأساسى، وكان يتم هذا فى الكتاتيب، وهى أبرز وأهم مراحل التعليم ويجلس الطلاب فيها من شروق الشمس حتى آذان العصر فيما عدا يوم الجمعة، و يقومون بتعلم القراءة والكتابة وحفظ قصار السور القرآنية، كما كان يتم تعليمهم الحساب والخط وبعض الألعاب الرياضية ويتم اصطحابهم فى بعض الأحيان إلى المسابح لتعليمهم رياضة السباحة.
وأشار إلى أن الطالب كان ينتقل بعد إتمام التعليم فى الكتاتيب إلى المساجد وهى مرحلة عليا، وكان الجامع الأزهر أهم جامعة للعلوم فى زمن الفاطميين لكن قبل إنشائه كان جامع عمرو بن العاص هو مركز التعليم الرئيسى فى البلاد، وقد أطلقوا عليه "الجامع العتيق"، "تاج الجوامع"، ويقول الشاعر والفيلسوف ناصر خسرو عن الجامع فى أيام المستنصر "ويقيم بهذا المسجد المدرسون والمقرئون وهو مكان اجتماع سكان المدينة الكبيرة، ولا يقل من فيه فى أى وقت عن خمسة آلاف من طلاب العلم والغرباء والكتاب الذين يحررون الصكوك".
وأكد أن الخليفة الحاكم بأمر الله، أشهر الخلفاء الفاطميين، أنشأ ما يعرف بـ "دار الحكمة" على غرار بيوت العلم القديمة فى بغداد، وأنفق عليها الأموال، وكانت بمثابة جامعة كبيرة ومركزا علميا وثقافيا لا مثيل له، فقد كان يدرس فيه الفلك والفلسفة والمنطق واللغة والطب، كما اهتم الفاطميون بإنشاء المكتبات وقصورهم عامرة بشكل يومى بمجالس الأدب والثقافة والفنون والمناظرات العلمية والفلسفية، حتى أن الخلفاء أنفسهم يقولون الشعر والأدب.
وأوضح أن الهبات والعطايا فى العصر الفاطمى أصبحت أمرا دائما لتمويل العملية التعليمية، فقد كان الأمراء والخلفاء يتنافسون فى إغداق العطايا والأموال على المعلمين والأدباء فى المناسبات المختلفة، كما كان الإغداق بالعطايا ليس قاصرا على الحكام فقط، بل أيضا شارك فيه الوزراء وكان أشهرهم على الإطلاق الوزير يعقوب بن كلس الذى يقول عنه الأنطاكى "كان الوزير يحب أهل العلم والأدب ويقربهم ويتفضل عليهم، وبلغنى أنه عرض على العزيز عندما قبض عليه جريدة بأرزاق الوزير على قوم من أهل العلم، ووراقين ومجلدى الدفاتر، ومبلغها ألف دينار فى كل شهر، فأمر العزيز بإجرائها عليهم ولا يقطع شيئًا منه".