تنقسم المجموعة القصصية الجديدة لـ شريف عبد المجيد (صولو الخليفة )، والصادرة عن دار بدائل للطبع والنشر والتوزيع والتى جاءت فى 184صفحة، من القطع المتوسط، إلى قسمين، القسم الأول بعنوان (صولو الخليفة) ويشتمل على 9 قصص، والقسم الثانى بعنوان (قبل وبعد) ويشتمل على 8 قصص.
جاءت معظم القصص واقعية تعبر عن وعى ثقافى بالمكان والزمان والانسان، فضاؤها السردى هو حى الخليفة بالقاهرة، وهو الحى الذى شهد مولد الكاتب، والذى عاش فيه طفولته وصباه وشبابه، واكتشف فيه مساحات سردية، واكبت عصر المعلوماتية والعولمة الكونية والتحول الإنسانى السريع، فأغرت بالقراءة، ووشت بالغواية، ودعت للتأمل، فالقراءة الأولى انفتحت على أفق من السرد العفوى البسيط المتدفق الهادئ، كتدفق مياه النيل، لكنه فى نفس الوقت يؤكد رغم الهدوء على أن ثمة زلزال آخر غير زلزال 92 قد حدث، يحمل بين جنباته أوراق الحنين للماضى، فأصاب معظم شخوص القصص روحيا وماديا، بما فيهم الراوى /الكاتب نفسه.. لقد تولد عن هذا الزلزال عالما متحولا يحمل الكثير من المتناقضات بما فيه من صدق وكذب، وحقيقة وزيف، وحق وباطل، وضحك وبكاء. وهى متذبذبة، لكنها تبلغ فى بعض القصص منتهاها وغايتها فى التأثير النفسى عند المتلقى.
تخلت القصص عن جماليات اللغة، وتأويلات المفردة، واستعاضت عن ذلك، بحوارات محكمة ودقيقة، لتلائم شخوصها، وهم الذين يعيشون فى ظروف اجتماعية واقتصادية غاية فى البؤس.
نجح الكاتب فى التواصل مع القارئ عبر رسائله السردية (حكاية ومعنى)، من خلال بعض التقنيات القصصية، وأهمها تقنية استرجاع الماضى،عبر زلزال فجر الذاكرة .بتداخل زمنى متابين فى لحظات فارقة، مستعينا بتقنية فرعية أخرى وهى (الصورة السنيمائية)، لتضئ المشهدالسردى بالفلاش باك أحيانا وبتحولات الروح/النفس أحيانا أخرى.
سينما صيفى أربع قصص (سينما الهلال- سينما أوديون - سينما مترو - سينما الهلال) وهى ترصد التحولات التى طرأت على هذا الفن السامى، "مؤسس الأحلام وبانى الخيال" فى الأربعين سنة الأخيرة. فهى للراوى، بمثابة البدايات المبكرة للأحلام، عندما اصطحبه الأخ الأكبر لمشاهدة فيلم الباطنية، فيعجب بأحمد ذكى، وفى نفس الوقت يهلل لبروسلى الذى يقاوم الظلم، وفى مرحلة الصبا يذهب يوم العيد لسينما أوديون مع الأب والأخ الأكبر، لمشاهدة أفلام الممثل الكوميدى الايطالى "بود سبنسر" فلا يتبق له من الذكرى وقد بلغ عمره الخمسين، غير التشبث بلحظة الماضى، باحثا عن افيشات الممثل، رغم وفاته، وفى نهاية القصة يصدم برأى ابنه فى هذا الممثل بمفارقة لاذعة(ممثل الأفلام محدودة القيمة ولا يحبها ).
وفى مرحلة الشباب ومع بدء عصر الكمبيوتر، يصطحب الحبيبة لسينما مترو لمشاهدة فيلم "تيتانك"، فلا يتبق له غير أغنية سيلون ديون وذكرى قصة حب ساذجة، يعود بعدها مرة أخرى لسينما الهلال بالخليفة، لتأتى أكثر النهايات مفجعة بزوال عصر الأحلام والخيال والمتعة، حيث طالت التحولات السينما فتهدمت وتحولت مع زوال الأصدقاء إلى أرض مهجورة تمهيدا لتحويلها إلى سوق تجارى كبير متخصص فى الملابس الصينية المستوردة.
وأمام هذه التحولات استدرجت الشخصيات إلى الموت بؤسا وقهرا (الوصية -توك شو )، حيث ماتت الأم بؤسا أمام عقوق الأبناء الثلاثة الذكور وتقاعسهم عن مساعدتها ماديا، رغم يسر أحوالهم فى الغربة، فماتت فى شقتها مع ابنتها العانس التى تئن تحت وطأة قلة المورد المالى، الذى تحصل عليه نظير أجر عمل مايزيد عن عشر ساعات يومية (مقص دار فى أحد المشاغل)، فتموت و"بجوارها طبقا شربة خضار " على سريرها، حتى تتعفن جثتها، ليبقيان معا "الأم والابنة "فى الحياة والموت.
وهو نفس المعنى للموت لكن فى جانبه المعنوى، الذى ربما يكون أشد قسوة من الموت المادى، الذى واجهته موهوبة الحى التى تعمل فى برامج التوك شو باجر 100 جنيه فى الحلقة، وحين احتاجت أمها التى أوشكت على الموت لقرار بالعلاج على نفقة الدولة، ولم يسمع لها أحد، فارادت طرح مشكلتها على الهواء فى البرنامج، فما كان من المذيعة أن طردتها، فخرجت تبكى، بينما اعتبرت المذيعة أن ما فعلته الموهوبة ما هو إلا مؤامرة على برنامجها الناجح، وغيرة من البرامج المنافسة .
ويستمر هذا الموت المفاجئ، على أثر مفارقات غاية فى البؤس، يحصد شخصيات تعانى الوحدة، وذهبت عنها الأضواء، لكنها تظل عالقة بالمكان، الذى تسكن فيه أرواحها، رغم الموت.
وهو ما حدث لكمال، مغنى الكورال بفرقة الموسيقى العربية والذى ذاع صيته ابان ظهور اغنية المطربة إلهام بديع "يا حضرة العمدة ..ابنك حميدة حدفنى بالسافندية"، فقد اكتشف الموظفون فى مكتب البريد، موته على كرسى الانتظار لمعاشه، بعد أن رحلت عنه زوجته، وبارت تجارته للآلات الموسيقية بسبب ظهور فرق المهرجانات فطالته التحولات، فآثر الابتعاد عن الدنيا بالموت، وكذلك حدث لربيع النجار، الوحيد، الصانع الماهر لغيّات الحمام والعاشق لموسيقى الزمن الجميل، وكذلك تحول سعيد ظاظا، العميل المزدوج لقطبى قوة الحى الحاج صابر وسيد روسيا، فبعد موت سيد، يتحول سعيد فى مفارقة عجيبة، للعمل كخادم فى مسجد السيدة سكينة ولا يكف أبدا عن النهنهة شعورا بالخزى والذنب.
يسيطر على القسم الثانى للمجموعة تيمة المفارقة الضدية، فثمة حدث فجائى، أو مخلق، يتبعه تحول فى كل عوالم السرد إلى حالة عكسية تماما.
لتصنع فى نهاية كل قصة مفارقة تعمق من آثر التحول سواء كان نفسيا روحيا أو ماديا، فى أزمنة متداخلة قد يكون الحاضر هو المحكى عنه، لكن الماضى يظهر بينها بوضوح فى حين يبدو المستقبل كبقع الضوء الباهتة....وهى الرؤية الواقعية للعالم الذى ينحاز إليه الكاتب بكل جدارة،مستخدما وعيه الثقافى المتعدد الروافد، ليلقى فى حجر المتلقى أيقونة الزمن بتأثيراته المختلفة فيتنوع الآثر من الحنين للماضى إلى الأسف على الحاضر والبكاء على المستقبل وربما الأثر كله يتحقق فى آن واحد.
شكل الايقاع السردى، أحد أدوات تلك الأيقونة، فظهر مهتما بالخارج فى الاستهلالات(خبريا ومعرفيا ). ومهتما بالداخل وبواطنه فى الأحداث نفسها (المتن السردى )، فتداخلت الأفعال والضمائر على نحو أتاح للمتن أن يظهر ويؤكد على الأيقونة.
فهناك العجوز، عاشق سبق الخيل والذى لا يجد سعادته إلا فى مضماره، وعندما يتغير ذوق الناس، وتفقد السباقات أهميتها، راهن بكل ثروته،على كل الجياد، فى مشهد أخير وكأنه يودع سعادته.
وعندما تتعرض القرية لحدث فجائى بسقوط جسم غريب على أراضيها، يتغير ناسها، وتدب الحركة بعد سكون، وتنتشر الأقاويل بعد صمت، فبالخطبة العصماء، يستخلص إمام المسجد العبر من رحم المأساة، وحكيمها، يرجح أنها قنبلة جاءت من الأعداء، بينما يزعم مدرس الفيزياء، أنها بقايا قمر تجسس، فى نفس الوقت الذى يصرح فيه مدرس الرياضيات أنها رسالة من الكواكب الأخري، وتأتى المفاجأة العجيبة من الجهة الرسمية من تقرير البحث الجنائى(تانك بنزين خاص بطائرة تدريب حربية ) وفى القصة اسقاطات على مجتمع يدار بالجهل والفهلوة والثرثرة، ولا يقر بالمنهجة والعلم والتفكير . انها نفس الفكرة التى اشتغل عليها الكاتب فى قصة الحريق، الذى اشتعل فجأة فى أحد الموالد الشعبية،وأمام هذه البنية المعرفية المهترئة، تتعدد التكهنات، وتنتشر الاشاعات، وتسيطر أجواء من الجهل والجهالة على المشهد، فلا تجد غير الجن والعفاريت، و عقاب الله لانتشار الرذيلة والسرقة والربا فى مجتمع القرية، ورغم التقرير الرسمى كالعادة الذى يقر بأن سبب الحريق هو (تحلل روث المواشى )، إلا أن السؤال عن سبب ومصدر الحريق يظل قائما.
وهكذا تأتى شخوص القسم الثانى متناقضة وتحكمها الأهواء والمزاجية، سواء على مستوى السلوك الفردى أو الجماعي،فالزوجة ترى أنفها كبيرا، وهى نظرة تختلف عن نظرة زوجها وولديها بأنه أنف جميل،وتصر على الذهاب لطبيب التجميل، الذى يقع فى خطأ طبى فتفقد عضلات الوجه حركتها فلا تقدر على الابتسام، فما كان من الزوج إلا أن تزوج من مديرة أعماله.
وهو نفسه، ما حدث بطريقة أو بأخرى فى قصتي"ضيف على الهواء، والحانوتى" فالضيف الكاتب مريض ومسن ومصر على الظهور فى البرنامج، وقبل الهواء بقليل يموت، وكذلك عم سعيد الحانوتى المقطوع من شجرة، يموت فى محله الصغير(كده عايزين حانوتى يدفنه )،فيضج الجميع بالضحك حد البكاء.
إنه الواقع الذهنى المؤسس على بنية معرفية خربة، بنية لا شئ تحصده منها غير الفشل، وهو ما تجلى بوضوح فى قصة "الفيلم الأفغاني"، فاللجنة تفضل مشروع فيلم التحرش، على مشروع فيلم عن فتاة كفيفة تقدم عزفا على الكمان فى أوركيسترا تعزف موسيقى كلاسيكية،وعلى مشروع عن بنت مسيحية بقرية فى المنيا، تعانى فى محيطها لحركتها بدون حجاب.
إنها عوالم تنهار وشخوص تتحول، لكنها لا تتقدم ولا تتطور، وكأن التاريخ يسيطر، بدائريته المغلقة، يظهر الماضى فيها بقوة، عندما يكون الحاضر محكيا عنه، بينما يظل المستقبل يقبع فى بؤر باهتة.