قليلون هم الساسة المحترفين فى مصر، ومنهم الراحل العظيم الدكتور رفعت السعيد الذى قبيل رحيله أهدانى كتابه "مقاربات مع ثلاثة رؤساء ومشير" الذى صدر عن الأمل للطباعة والنشر.
فى إهدائه الكتاب لى قال "يأتى يوم يجد فيه الإنسان ضرورة لأن يقول ما تبقى عنده" فهل كان مدركاً وهو يصدر كتابه هذا فى العام 2017م أنه عام رحيله.
الكتاب سيرة سياسى لم يتقلد أى منصب رسمى، وذاق مرارة السجون فى عدة عهود، فاستطاع بوصف مسهب أن يشرح لنا هذه السجون، فشهد لأنور السادات أن سجونه لم تشهد تعذيبا.
لذا فالكتاب على ما به من سرد يجعل منه فيلما سينمائيا بامتياز أو رواية متعددة الشخوص والمشاهد، حمل أيضاً متناقضات السياسة بكل أبعادها، تشابك الأحداث وضياع الحقيقة غير الظاهرة للعيان وهو أكثر الأشياء إثارة فى هذا الكتاب على نحو ما يذكر رفعت السعيد فيما يلي:
أ-فى خضم الموج الناصرى
وأنا كما وعدت القارئ وتوعدت نفسى لن أحاول اجتياز احتكاكى الشخصى إلى الكتابة عن الناصرية وما فعلنا معها وما فعلت بنا. فقط ما رأيا أنا وفعلت وقلت وسمعت. لكن التجربة الأولى لم تكن ذات انطباع إيجابى. ففى بدايات العام الدراسى الثانى فى جامعة إبراهيم باشا الكبير (عين شمس فيما بعد) وكنت تقريبا منهمكا فى غمرة العمل السرى باستثناء زيارات متعجلة للجامعة أرتب فيها بعض الأمور التنظيمية، وفى صباح مبكر أتى رفيق يحمل رسالة شفوية تقول.. الإخوان يستجلبون إلى ساحة حقوق جامعة فؤاد (القاهرة حاليا) حشودا طلابية ضخمة من مختلف المعاهد والمدارس استعدادا لزيارة سيقوم بها جمال عبد الناصر إلى كلية الحقوق وقد تعهد له الإخوان باستقبال حافل.
دارت ماكينتنا محاولة أن تحشد ما هو ممكن من طلاب لنجده رفاقنا هناك، واستطعنا تجميع عدد لا بأس به من الوفديين ومصر الفتاة ورفاقنا فى الحقوق والهندسة والطب واستغرق ذلك وقتا وفى أتوبيسات النقل العام تحركنا إلى ساحة حقوق فؤاد، لنجد حشودا إخوانية كبيرة فعلا وعديد من رفاقنا، وقد تعرضوا لعدوان غاشم زادته وحشية إحساس الإخوان بمساندة عبد الناصر لهم.. وعبد الناصر وخالد محيى الدين وآخرون من أعضاء مجلس قيادة الثورة.. واقفون على منصة وحسن دوح القائد الطلابى للإخوان ممسك بميكروفون ويصرخ وسط هتافات إخوانية صاخبة "يا رجل الثورة.. أعطنا حرية فى العمل وساعتها سنقول للشيوعية الملحدة اخرجى من بلادنا.. ونقول لهم "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ليحطمنكم سليمان وجنوده".. كنا قد وقفنا معا وانضم إلينا بعض من طلال جامعة فؤاد.. ولم ينتبه إلينا أحد، فقد غادر الضباط المنصة ودخلوا مكتب الدكتور مورو رئيس الجامعة.
وانصرف الإخوان بعد أن أدوا مهمتهم الثلاثية وهى ضرب الشيوعيين وتملق عبد الناصر أمام زملائه الضباط وإظهار قوتهم لقادة الثورة وبعد فترة كما وحدنا تقريبا والضباط أمضوا وقتا مع د. مورو يكفى كى ننظم أنفسنا فى هدوء وصمت، وفيما كان عبد الناصر والضباط يخرجون كنا نسد الطريق أمام سياراتهم.. هاتفين "الشعب يريد الديمقراطية" "الشعب يريد الدستور" "افرجوا عن المعتقلين" دهش الضباط وتوقف عبد الناصر ليتأملنا ولعله تساءل فى نفسه من أين أتوا؟ وكيف أتوا بعد كل ما كان؟ استمرت هتافاتنا حوالى عشر دقائق وعبد الناصر أشار لحرسه بعدم التحرك وهو واقف صامت والضباط الآخرين ما بين مبتسم شماتة فى جمال وفى الإخوان وبين من يظهر الغضب وبإشارة واحدة صمت الهتاف وتفرق الجمع.. وانطلق الضباط بسياراتهم.
إضافة لاحقة: وبعد سنوات طويلة ما بين سجن واعتقال وبعد الخروج الأخير من السجن.. عملت فى مؤسسة أخبار اليوم بواسطة من محمود المناسترلى زوج أخت ليلى (التى أصبحت آنذاك خطيبتى) ودعم من على الشلقانى. وبعد فترة من العمل معا تآلفنا أنا وخالد محيى الدين (الذى كان رئيسا لمجلس إدارة المؤسسة) وفى جلسة دردشة ونحن فى طريقنا معا للإسكندرية بالسيارة حكيت له هذه الواقعة فانفجر ضاحكا وسأل.. أنت كنت فيهم؟ فقلت نعم. وحكى خالد محيى الدين أن عبد الناصر استدرجهم إلى الجامعة لكى يريهم نفوذه على الإخوان ولكى يحرج موقف الأستاذ خالد الذى كان يحشد ضباط سلاح الفرسان والضباط اليساريين مطالبين هم أيضا بالديمقراطية.
لكن ظهورنا وهتافاتنا والتى لم تكن مخططة أصلا أفسد زهو عبد الناصر لكنه قال لخالد "برضه الولاد بتوعكم جدعان". ثم همس فى أذنى أوعى تحكى الحكاية دى لحد.. فعبد الناصر لا ينسى مثل هذه الأشياء..