بقدر ما أثار تتويج كازو ايشيجورو بجائزة نوبل فى الآداب هذا العام حالة عامة من الارتياح بين الأوساط الأدبية فى العالم فإن عالم هذا الروائى اليابانى المولد والبريطانى الجنسية الذى تجاوز ال 62 عاما جدير بجولة فى إبداعاته التى تموج بين حنايا الذاكرة وسلطان الزمن وخبايا المعنى.
وقال كازو ايشيجورو، فى مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، إن للكاتب أن يترك "الكثير من المعنى تحت السطح" فيما تبدو فضيلة "التواضع" ظاهرة فى شخصية الأديب النوبلى الجديد الذى دخل مضمار الإبداع الأدبى منذ نحو 35 عاما.
والقراءة المتعمقة لإبداعات ايشيجورو تكشف عن عناوين رئيسية تتصدر اهتماماته كمبدع وهى "الذاكرة والزمن والفقد والحرب والحب وتهاويم الذات" فهو الكاتب المهموم والمهجوس بمثالب الذاكرة وحقيقة الموت والطبيعة المسامية للزمن مع حس أصيل وإحساس حاد بمعطيات المكان وهو أيضا "المبدع الخارج بحذق على الأنواع الأدبية التقليدية" .
ولعل ايشيجورو يشكل أحد النماذج النادرة فى عالم الأدب من حيث "استحواذه على ثناء العديد من النقاد والدارسين الأكاديميين مع تحقيق كتبه لنجاحات كبيرة بمعايير الأرباح التجارية للناشرين"، فيما قدرت صحيفة نيويورك تايمز مبيعات رواياته فى الولايات المتحدة وحدها قبل تتويجه بجائزة نوبل بنحو مليونين ونصف المليون نسخة.. فيما من المنتظر أن تشهد هذه المبيعات طفرة بعد التتويج النوبلي.
وجاءت حيثيات قرار الأكاديمية السويدية بمنح جائزة نوبل فى الآداب هذا العام لكازو ايشيجورو منوهة بأن هذا الأديب "كشف فى روايات مشحونة بعواطف قوية الهوة الكامنة تحت شعورنا الوهمى بالتواصل مع العالم".
وتوقفت الأكاديمية مطولا أمام روايته الأشهر "بقايا اليوم" لتصفها بأنها "رائعة أدبية"، فيما كانت جريدة الجارديان البريطانية قد نشرت مقالة لايشيجورو المقيم فى لندن يكشف فيها عن أنه كتب هذه الرواية فى 4 أسابيع حيث أنهمك فى الكتابة يوميا فى صيف 1987 وفقا "لنهج مكثف" من التاسعة صباحا إلى العاشرة والنصف مساء.
ورواية "بقايا اليوم" تدور أحداثها فى السنوات التى أفضت للحرب العالمية الثانية وذلك الساقى الذى يخدم أحد اللوردات الإنجليز، بينما تتناول روايته الشهيرة الأخرى "لاتدعنى أرحل أبدا" صورا غريبة للحب فى مدرسة داخلية إنجليزية، فيما كان قد اعتبر دراسته الثانوية بأنها كانت "الفرصة الأخيرة لمعاينة ماتبقى من صور قديمة وغابرة للمجتمع الإنجليزى فى تحولاته".
وعرف كازو ايشيجورو طريقه أيضا لكتابة سيناريوهات أفلام ومسلسلات تلفزيونية مثل "الكونتيسة البيضاء" و"الموسيقى الأكثر حزنا فى العالم"، كما جرى اقتباس روايتيه :"بقايا اليوم" و"لاتدعنى أرحل ابدا" فى فيلمين حققا نجاحا كبيرا على الشاشة الكبيرة .
والطريف أنه كان يحلم بأن يكون مغنيا لأغانى "البوب" وأن يكتب كلمات أغانيه على غرار مايفعله الأمريكى بوب ديلان الذى سبقه للفوز بجائزة نوبل فى الآداب وآثار هذا الفوز فى العام الماضى عواصف غضب وانتقادات حادة من جانب العديد من المثقفين والأوساط الأدبية.
ورغم أن ايشيجورو تخلى عن حلمه فى أن يكون مغنيا للبوب أو الأغانى الشعبية الخفيفة فقد استمر ولعه بالموسيقى والأنغام والقوالب الغنائية ليذهب بعض النقاد فى الغرب إلى أن هذا الولع الغنائى والموسيقى أثر بالإيجاب فى نثر وسرد الفائز بجائزة نوبل فى الآداب لهذا العام حتى يحق وصفه بأنه من أفضل أصحاب الأقلام والأساليب الأدبية بين جيله من الكتاب البريطانيين، كما أنه صاحب رؤية تحليلية عميقة للنظام الطبقى فى بريطانيا.
ووقع كازو ايشيجورو فى هوى الأدب منذ أن صافحت عيناه قصص شرلوك هولمز البوليسية وهو طفل فى التاسعة من عمره، فيما باح لجريدة التايمز البريطانية بأنه بدأ يتصرف أيضا فى أيام الصبا مثل أبطال القصص التى كان يلتهمها فى المكتبة العامة القريبة من منزله فى بريطانيا.
وعرف اسم كازو ايشيجورو لأول مرة بين الأوساط الأدبية البريطانية عندما فاز فى عام 1983 بجائزة "جرانتا" كأفضل كاتب شاب، بينما يعترف بأن روايته الأشهر "بقايا اليوم" كانت الأكثر إثارة لقلقه قبل نشرها خشية أن يكون قد كرر فيها ماكتبه من قبل وما استخدمه من أساليب روائية.
والحقيقة أن أساليب ايشيجورو الروائية تنزع نحو الاستقصاء وأحيانا للخيال العلمي، فضلا عن الفانتازيا وشييء من السيريالية ومنطقة الأحلام والواقعية السحرية وهو أحد من ينزعون نحو "تحطيم الأيقونات أو الثوابت التقليدية فى عالم الأدب".
ولئن انطوى اسم كازو ايشيجورو على قدر من المفاجأة باعتبار أن هذا الأديب لم يكن مطروحا بقوة على أغلب قوائم التوقعات "لأم الجوائز الأدبية العالمية" فالفائز بجائزة نوبل هذا العام كان أول من أقر بشعوره بالمفاجأة وأن كانت "مفاجأة سعيدة للغاية وصدمة رائعة".
وقال الروائى الكندى والسريلانكى الأصل مايكل اونداتجى إنه شعر بسعادة بالغة حيال اختيار ايشيجورو للتتويج بجائزة نوبل فى الآداب، فيما أضاف صاحب رواية "المريض الإنجليزي" انك ازو ايشيجورو "كاتب نادر وصاحب غموض أخاذ ويصيبنى بالدهشة مع كل كتاب يصدره".
وكانت السكرتيرة الدائمة للأكاديمية السويدية سارا دانيوس صريحة للغاية عندما أعربت أمس الأول "الخميس" فى ستكهولم عن الأمل "فى أن يكون العالم سعيدا" للإعلان عن فوز كازو ايشيجورو بجائزة نوبل فى الآداب هذا العام" بعد ماحدث من لغط وصخب فى العام الماضي" لتعترف بذلك ضمنا بأن "الأكاديمية السويدية منحت الجائزة لايشيجيرو للتخلص من اشباح ديلان" !.
وابتعدت الأكاديمية السويدية هذا العام أيضا عن "شبهات تسييس أهم جائزة أدبية فى العالم" لأن كازو ايشيجورو الذى يحمل رقم 114 فى المتوجين بنوبل للآداب ليس بالناشط السياسى ولايمكن تصنيفه سياسيا بوضوح ضمن التيارات السياسية المتصارعة بقدر مايسهل تصنيفه أدبيا لتعود الجائزة بذلك إلى أديب قح لاتسرق السياسة اهتماماته الأدبية، كما أن الأكاديمية السويدية منحته الجائزة عن مجمل أعماله وليس عن رواية واحدة.
ومنح جائزة نوبل فى الآداب هذا العام لكازو ايشيجورو ابن عالم المحيطات وصاحب الثقافة الجامعة مابين بريطانيا واليابان والذهنية التى تمزج مابين "التأمل اليابانى والتحفظ البريطاني" والذى وصفته سارا دانيوس "بالكاتب المتألق" قد يرضى البريطانيين واليابانيين معا حيث يحق للبريطانيين أن ينسبوا الفائز بجائزة نوبل فى الآداب هذا العام لبريطانيا بحكم جنسيته ولليابانيين أيضا أن يعتبروه أحد أدبائهم بحكم أصوله وجذوره ومولده فى اليابان وهو ماتبدى فى مشاهد احتفالية يابانية بعد الإعلان أمس الأول عن فوزه بالجائزة.
فقد ولد الفائز بجائزة نوبل فى الآداب يوم 8 نوفمبر عام 1954 بمدينة نجازاكى اليابانية وبعد نحو أربع سنوات انتقلت أسرته للعيش فى بريطانيا التى حصل على جنسيتها عام 1982 ورغم تواضعه المحبب فإن إبداعاته حفرت بالفعل بصمة عميقة فى مسارات الأدب الإنسانى ولفت أنظار عشاق الكلمة بقدرته الفذة على الجمع مابين الأسلوب المنضبط والوجدان الفياض مع براعة فى استخدام وتوظيف المعانى الضمنية والمضمرة ومايدخل فى "باب المسكوت عنه".
ولاريب أن إبداعات ايشيجورو تعبر فى كثير منها عن ارتباط عاطفى ووجدانى باليابان حيث الجذور ومسقط الرأس ووطن الآباء والأجداد وهى حقيقة عبر عنها الفائز بجائزة نوبل للآداب بقوله "رغم نشأتى فى بريطانيا فإن جزءا كبيرا من نظرتى للعالم وأسلوبى الفنى يابانى لأننى تربيت فى كنف أبوين يابانيين ويتحدثان اليابانية".
وفى أولى رواياته: "منظر شاحب من التلال" التى نشرت عام 1982 و"فنان من العالم الطافي" التى صدرت عام 1986 يمكن للقاريء أن يلمس بوضوح تأثير جذوره اليابانية ومسقط رأسه فى مدينة ناجازاكى التى تعرضت للقصف بالقنابل الذرية الأمريكية مع مدينة هيروشيما فى أواخر الحرب العالمية الثانية .
وفيما يحمل "رقم 29 "بين الأدباء النوبليين الذين يكتبون بالإنجليزية، قال ايشيجورو - فى مقابلة صحفية - إنه مشدود للبيئة التى شكلت من حيث الزمان والمكان محيط الحرب العالمية الثانية ومهتم باختبار القيم على محك الواقع .
وبدا ايشيجورو غير مصدق لفوزه "بأم الجوائز الأدبية العالمية" التى تبلغ قيمتها المالية هذا العام 9 ملايين كورونا سويدية أى مايعادل نحو مليون ومائة ألف دولار أمريكي، معتبرا أن فوزه بهذه الجائزة يعد شرفا عظيما ويعنى أنه "يسير على خطى المؤلفين الكبار".
وكانت تقارير قد ذهبت إلى أن القائمة الموسعة للمرشحين لجائزة نوبل فى الآداب هذا العام ضمت 240 شخصية أدبية ثم مرت بمراجعات عديدة حتى تقلصت فى شهر مايو الماضى إلى قائمة قصيرة لاتضم سوى 5 أسماء.
وواقع الحال أن الأكاديمية السويدية التى وصفت كتابات ايشيجورو بأنها تتميز "بطابع متحفظ وحذر فى التعبير" هى التى توخت الكثير من الحذر هذا العام فى اختيار المتوج بأم الجوائز الأدبية العالمية واختارت صاحب قلم لايمكن لأحد أن يقلل من توهجه الإبداعي، كما أنه يتحلى على مستوى السجايا الشخصية بفضيلة التواضع ومن ثم فقد مضى يتحدث بعد فوزه بالجائزة عن الأدباء الكبار الذين يسير على خطاهم.
وعندما اتصلت السكرتيرة الدائمة للأكاديمية السويدية سارا دانيوس بايشيجورو لتبلغه بالنبأ السعيد فإنه مضى يلهج بالشكر ولم يخف شعوره بالسعادة البالغة لتتويجه "بأعظم جائزة أدبية يمكن أن يتوج بها".
ورأت هذه الأكاديمية والكاتبة والناقدة السويدية أن كتابات ايشجورو تمزج مابين الطابع المميز للكاتبة الروائية الإنجليزية جين اوستن التى قضت عام 1817 والكاتب التشيكى فرانز كافكا الذى قضى عام 1883 مع "شييء من نكهة مارسيل برويت" الروائى الفرنسى الذى قضى عام 1922 ثم يبث فى كل ذلك المزيج من نفحات الجمال لايمتلكها سواه ليشيد "عالمه الجمالي".
وكازو ايشيجورو الذى وصفته السكرتيرة الدائمة للأكاديمية السويدية "بالكاتب صاحب الاستقامة العظيمة" هو الذى وصف العالم بأنه "يمر بلحظة من أكثر لحظات اللايقين بشأن قيمه وسلامته"، معربا عن أمله فى أن تكون جوائز نوبل "قوة لصنع شييء إيجابى فى العالم حتى لو كان مجرد شييء صغير فى تلك اللحظة الحرجة والمشحونة باللايقين".
وحسب الأكاديمية السويدية التى يختار أعضاءها الفائز بجائزة نوبل للآداب فقد كشف كازو ايشيوجورو فى رواياته ذات القوة العاطفية العظيمة الخواء الكامن تحت شعورنا الواهم بالتواصل مع العالم، فيما تبلغ عدد رواياته 8 روايات ترجمت إلى 40 لغة.
وفى عام 1989 توج ايشيجورو بجائزة بوكر للأدب وهى أهم جائزة للأدب المكتوب بالإنجليزية عن روايته "بقايا اليوم"، قيما صنفته جريدة التايمز البريطانية فى عام 2008 ضمن قائمة أعظم 50 مؤلفا بريطانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وكان كازو ايشيجورو صاحب قصة "المارد الدفين" قد حصل على الليسانس فى اللغة الإنجليزية والفلسفة من جامعة كنت فى عام 1978 ثم نال الماجستير فى الكتابة الإبداعية من جامعة ايست انجليا فى عام 1980 وتوج فى عام 1995 بوسام "اوب" البريطانى تقديرا لما قدمه من خدمات للأدب .
وصاحب:"من لاعزاء لهم" و"فيما كنا يتامى"يعمد فى تكتيكاته الروائية "لنهايات دون حلول واضحة للصراعات" بينما تكشف شخصياته عن فشلها وأخطائها وخطاياه"، فيما قالت السكرتيرة الدائمة للأكاديمية السويدية سارا دانيوس إنه "حريص للغاية على فهم الماضى لكنه لايسعى لاسترداد الماضى وإنما يستكشف مايمكن تناسيه من هذا الماضى حتى يتسنى للفرد والمجتمع معا الاستمرار والبقاء على قيد الحياة".
وإلى جانب رواياته فإن لكازو ايشيجورو عدة مجموعات قصصية قصيرة فيما يكتب رواياته غالبا بضمير المتكلم مع احتفاء بالتفاصيل وانتصار واضح لقيمة الصدق.
وحسب جريدة الجارديان البريطانية يرى القاص والشاعر الإنجليزى الكبير اندرو موشن أن "العالم الإبداعى لكاوز ايشيجورو يتميز بالعمق الثرى لكنه عالم ملغز ومفعم بالوحشة والعزلة والأحاسيس المستنفرة والخطر والدهشة والتساؤل".
ويضيف اندرو موشن، الذى حمل من قبل لقب شاعر البلاط البريطاني، أن ايشيجورو شيد هذا العالم الإبداعى "باتكاء الحكى على مباديء مؤسسة ومزيج من مخزون مشاعر مرهفة للغاية مع شواهد جلية لفيض الوجدان".
ويكاد لسان حال الأدب هذا العام يقول "هنيئا لكازو ايشيجورو بأم الجوائز الأدبية", فتتويجه كأديب نوبلى أثار ارتياحا عاما بين أغلب الأوساط الأدبية فى العالم، كما أن هذا التتويج يأتى فى مرحلة يمكن وصفها "بمرحلة البذخ الإبداعى لايشيجورو" الذى يعكف حاليا على كتابة رواية جديدة كما يبحث مشروعين للمسرح مع عدة معالجات سينمائية.
ويستشعر البعض بأن شيئا ما فى هذا الأديب النوبلى الجديد والحى بتواضعه الجميل وسجاياه وإخلاصه للأدب يعيد للأذهان صورة هرم الرواية المصرية وكبير الروائيين العرب نجيب محفوظ الذى توج بجائزة نوبل فى عام 1988 ومنذ ذاك العام لم يتوقف قطار نوبل أمام أى أديب عربى آخر!!.