صدر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية كتاب مدخل إلى الدراسة النفسية للأدب وهو من تأليف الدكتور شاكر عبد الحميد، الناقد ووزير الثقافة المصرى الأسبق.
يحتوى الكتاب عددًا من الفصول الممتعة التى حاولت الإحاطة بالدراسات والإسهامات البارزة التى قدمها محللون نفسيون أمثال فرويد ويونج ولاكان وغيرهما، وكذلك بعض الإسهامات العربية فى هذا المجال، ويحتوى الكتاب عددا من الفصول المهمة التى تتناول موضوعات مثل: الخيال والأحلام والدوافع والانفعالات وشخصية المبدع والإبداع والحرية وغير ذلك من الموضوعات.
ويشير شاكر عبد الحميد إلى أنه يمكننا أن نلاحظ وجود اهتمامات عديدة قديمة بالموضوعات النفسية فى مجال الأدب داخل الأعمال الأدبية، حيث ظهر اهتمام الأدباء والنقاد بالجوانب الخاصة بأنماط الشخصيات وسماتها، ودوافعها، وانفعالاتها، وأفكارها، وصورها، وقيمها، واهتماماتها، وتفاعلاتها، واتزانها، واضطرابها، ومثاليتها، وغير ذلك من الجوانب، أما فى مجال الدراسة النفسية للأدب من وجهة نظر علماء النفس أو المحللين النفسيين، فإن معظم الاهتمامات – رغم قلتها – قد انصبت على المبدع دون القارئ وعلى نوع إبداعى بعينه، غالباً ما كان هو الشعر، دون الأنواع الأخرى، وفى كثير من الأحيان كان المنحى التحليلى النفسى هو السائد والغالب على هذه الدراسات، كذلك أدى الانشغال الزائد بالجوانب اللاشعورية فى الدراسات التحليلية النفسية للأدب إلى المبالغة فى الاهتمام بالجوانب المرضية والغريبة منه، وإلى هيمنة موضوعات بحثية قليلة تتعلق بالشخصية والخصائص الانفعالية والدافعية المميزة لها وإلى إهمال الجوانب الأكثر ايجابية واكثر معرفية فى الشخصية الانسانية، إن الأدب لا يمثل فقط الجوانب السالبة لدى الإنسان، بل يمثل أيضًا نجاح هذا الإنسان فى علاج أزماته ومشقاته النفسية ويمثل نموه وتحقيقه لذاته وشعوره بالكفاءة والانتماء.
بعد قرون عدة ازداد اهتمام النقاد والشعراء الرومانتيكيين بعد ذلك بهذا الجانب النفسى فى كتاباتهم حتى إننا نجد شاعرا مثل " وردزورث" يؤكد فى مقدمة ديوانه " مواويل غنائية Lyrical Ballades" وجود فروق فى النوع، وليس فى الدرجة، بين الشاعر وغيره من البشر، فالشاعر فى رأيه يكون " أكثر حساسية، وأكثر حماسا، وأكثر رقة، ولديه معرفة أعظم من غيره بالطبيعة البشرية، كما أن روحه تكون أكثر اتساعا وشمولا وقدرة على التفكير، وعلى الشعور، بما يعتمل فى باطن الروح الإنسانية من انفعالات".
ويتابع شاكر عبد الحميد إلى أنه فى بداية القرن العشرين بدأ ظهور الاهتمام بالدراسات النفسية للأدب مع إسهامات التحليل النفسى فى ميدان الأدب، فظهرت كتابات فرويد ويونج ووساخس وجونز وغيرهم فى هذا الشأن، وقد تباينت استجابات نقاد الأدب والفن وعلماء النفس ازاء ما قدمه التحليل النفسي، بين المؤيد تماما لهذا الاتجاه، أو المعارض تماما له، وبين هؤلاء وهؤلاء وقف البعض الثالث فى مرحلة المنزلة بين منزلتين! بين التأييد والمعارضة.
وخلال العقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين بدا أن الإسهام التحليلى النفسى، فى ميدان الأدب، قد بدء يشحب بدرجة واضحة، وبدأ الإسهام الخاص بما يسمى بالمنحى الموضوعى فى دراسة الأدب يتزايد ويقدم إسهاما متميزا تلو الآخر.
فى العقد الأخير من ذلك القرن وما بعده بدا أن حالة الكمون التى اصابت التحليل النفسى فى هذا المجال قد انتهت ومن ثم عاود هذا الاتجاه دراسة الأدب من خلال مفاهيم جديدة أو من خلال مفاهيم قديمة تم كشف الغطاء عنها فاستخدمت بأشكال بارعة جديدة ومنها، تحديدًا، مفهوم الغرابة.
وتوجد، على المستوى العربي، منذ زمن طويل، اهتمامات واضحة من قبل النقاد والأدباء بالبعد النفسى فى الأدب. وقد تجلت هذه الاهتمامات فى كتابات "عبد القاهر الجرجاني" (خاصة فى أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز) ولدى "ابن قتيبة" (فى الشعر والشعراء). ولدى "الفارابي" و"ابن مسكويه" "وإخوان الصفا" "وحازم القرطاجنى" وغيرهم، إشارات وتصورات عديدة حول الإدراك والصور الذهنية والذاكرة والخيال والإبداع.
وقد اعتبر "محمد خلف الله أحمد" عام 1914 تاريخًا لميلاد فكرة الاهتمام العلمى بالبعد النفسى فى الأدب، ففى ذلك العام حصل طه حسين على الدكتوراه فى الأدب عن أبى العلاء المعرى ووردت فى هذه الدراسة وغيرها من دراسات طه حسين إشارات واضحة عن اهتمامه الملحوظ بالبعد النفسى فى الأدب وتجلى ذلك، أيضًا، فى كتبه " حافظ وشوقي" و " مع المتنبي" ودراساته عن "بشار" و "أبى تمام" و"ابن الرومى " فى "حديث الأربعاء" وغيرها.
ثم بدأ هذا الموضوع يأخذ مكانه فى جدول الدراسات العليا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، فى أواخر الثلاثينات القرن العشرين، وقام بالمجهود الكبير فى هذا الشأن "أمين الخولى" و"خلف الله أحمد" وقد كتب " أمين الخولى" عام 1945 فى العدد الأول من مجلة علم النفس مقالا بعنوان " علم النفس الأدبي" أشار فيه إلى تلك العلاقات المشتركة والمهمة بين علم النفس والأدب.
إضافة إلى ما سبق، هناك أيضا تلك الإسهامات المهمة، فى هذا السياق، والتى قدمها "حامد عبد القادر" والنهويهى ثم "العقاد"، وخاصة فى دراستيه الشهيرتين عن "ابن الرومي" و" أبى نواس" والتى وضح فيها تأثره الكبير بالكتابات التحليلية النفسية.
من الأمثلة الشهيرة أيضا فى هذا السياق ذلك الإسهام الذى قدمه " عز الدين إسماعيل "فى كتابه "التفسير النفسى للأدب" والذى أكد فيه أن "العلاقة بين الأدب وعلم النفس لا تحتاج إلى إثبات، وكل ما تدعو الحاجة إليه هو بيان هذه العلاقة وشرح عناصرها، وأن النفس تصنع الأدب، كذلك يصنع الأدب النفس" وقد قام "عز الدين إسماعيل" فى كتابه هذا أيضًا بالاستفادة من كتابات "فرويد" خاصة الكبت واللاشعور، والتناقض الوجداني، وعقدة أوديب، وغيرها، فى تفسير بعض الأعمال الأدبية وأشهرها رواية " السراب" لنجيب محفوظ و"هاملت" لشكسبير و"أيام بلا نهاية" ليوجين أونيل وغير ذلك من الأعمال.
وهناك أيضا تلك الجهود الخاصة فى هذا الشأن والتى قدمتها "نبيله إبراهيم" فى تفسير الأدب الشعبى والتى استفادت خلالها من مفاهيم "يونج" عن اللاشعور الجمعى والنماذج الأولية وكذلك دراسة "عبد المجيد حسن" عن الأدب العربى القديم التى عرضها فى كتابه "الأصول الفنية للأدب"، وكتاب "مصطفى ناصف" "رمز الطفل: دراسة فى أدب المازنى" وكتاب "محمد زكى العشماوي" "قضايا النقد الأدبى والبلاغة" وكتاب "بدوى طبانه" "التيارات المعاصرة فى النقد الأدبي" وكتاب "إبراهيم سلامة" "تيارات أدبية بين الشرق والعرب" وكتاب "أصول النقد الأدبي" لأحمد الشايب ودراسة "محمد خلف الله أحمد" حول "الموهبة الشعرية ووظيفة الشعر عند "شوقي".
تتعلق الدراسات السابقة بما قدمه الأدباء ونقاد الأدب من إسهامات فى مجال اكتشاف الأبعاد النفسية الأبعاد النفسية للأدب، أى بذلك الاتجاه الذى كان يسير من الأدب ويتجه نحو علم النفس، وقد كان أصحابه من المشتغلين بالأدب لكنهم حاولوا أن يتوصلوا إلى فهم أكبر للظاهرة الأدبية، كما تتجلى فى بعدها النفسي، وفى مقابل ذلك الفريق هناك فريق آخر أصحابه من المشتغلين بعلم النفس لكنهم اتجهوا من مجال دراستهم إلى مجال الأدب أملاً أيضا فى الوصول إلى فهم أكبر للظواهر النفسية كما تتجلى فى الأدب ولدى الأدباء. وقد بدأ هذا الاتجاه فى أواخر الأربعينات من هذا القرن على يد "مصطفى سويف" خاصة فى دراسته الشهيرة "الأمس النفسية للإبداع الفنى فى الشعر خاصة" وأيضا على يد بعض تلاميذه خاصة "مصرى حنورة " فى دراستيه عن الأسس النفسية للإبداع الفنى فى الرواية وفى المسرحية وكذلك مؤلف هذا الكتاب فى دراسته عن الأسس النفسية للإبداع الأدبى فى القصة القصيرة خاصة، كما أننا نجد اهتمامات أخرى بالأدب على يد "فرج أحمد فرج" وهى اهتمامات تمت من خلال القيام بالفحص التحليلى النفسى لبعض الأعمال الأدبية لمؤلفين عرب أمثال " نجيب محفوظ " وغادة السمان" .
يتناول الكتاب عدداً من الموضوعات المهمة ذات الفائدة الكبيرة للقارئ العام وكذلك الباحث المهتم بهذا المجال، وقد أفاض المؤلف فى الحديث عن الاتجاه التحليلى النفسي، خاصة لدى فرويد، ويونج ولاكان، وباعتباره المنحى الذى تصدى أكثر من غيره لدراسة الأدب والأدباء والذى يعرفه قراء العربية أكثر من غيره أيضا على الرغم من ما يعانيه هذا الاتجاه من جوانب قصور وثغرات.