تتجلى الثقافة الشعبية المصرية فى الاحتفال بذكرى موالد أقطاب التصوف مثل مولد القطب الصوفى إبراهيم الدسوقى الذى يبدأ رسميا اليوم السبت، ويستمر حتى يوم الجمعة المقبلة بمشاركة أغلب الطرق الصوفية.
واعتبارا من أمس الجمعة بدأت الاستعدادات المكثفة للاحتفال بمولد إبراهيم الدسوقى بمدينة دسوق فى محافظة كفر الشيخ فيما يرتفع الدعاء لمصر من قلوب المحبين وحشود المتصوفة والزائرين لعنان السماء.
وحسب تقديرات معلنة فى الأعوام الماضية فإن متوسط عدد الزائرين لمسجد إبراهيم الدسوقى يتجاوز المليون شخص خلال الأسبوع الذى يقام به هذا المولد الكبير ليكون هذا المسجد من أكبر المزارات الصوفية فى مصر والعالم الإسلامى وبفضله سجل اسم دسوق الواقعة فى شمال مصر ضمن أعضاء منظمة العواصم والمدن الإسلامية.
ويتوافد المصريون مع زائرين من خارج مصر طوال أيام الاحتفال بالمولد على مسجد إبراهيم الدسوقى فى منطقة باتت تحمل عبقا مصريا بالغ الخصوصية تماما مثل منطقتى الحسين والسيدة زينب فى القاهرة، كما يعد مولد الدسوقى من أكبر احتفالات الموالد فى مصر والتى يتصدرها مولد الإمام الحسين وشقيقته السيدة زينب.
وتضفى الطرق الصوفية بمريديها الكثير من طقوسها ومباهجها على المكان وهو ما يحدث أيضا فى الاحتفال بمولد السيد البدوى فى طنطا وأبو العباس المرسى فى الأسكندرية إلى جانب العديد من موالد الأولياء فى شتى أنحاء مصر المحروسة.
ويهتم الباحثون فى تخصصات ثقافية مختلفة من بينها التاريخ الاجتماعى والانثربولوجى وعلم الاجتماع الثقافى بتلك الاحتفالات باعتبارها مادة للدراسة والإبحار المعرفى فى الطرق والجماعات الصوفية ووظائفها الاجتماعية والثقافية.
وواقع الحال أن الثقافة المصرية تتجلى فى صور متعددة بهذا السياق الاحتفالى الذى يظهر أيضا من المنظور الثقافى أن اللغة ليست كلمات فقط، وإنما هى أيضا إيماءات وسلوكيات ورموز وطريقة إخراج على حد قول الباحثة آنا ماديوف فى معرض تناولها لهذه الحشود الاحتفالية العارمة.
وإذا كان "المولد" حدثا يلتحم ويتفاعل مع ثقافة وتقاليد المكان كما أنه "مناسبة زمانية للذاكرة الحية"، فإن هذا الاهتمام والتدبر والتفكر فى ذكرى مولد إبراهيم الدسوقى يعيد للأذهان ما تحمله إبداعات وكتابات أدباء ومفكرين من أهم رموز الثقافة المصرية حيث تسطع مثلا شخصية الحسين واسمه كما هو الحال فى ثلاثية نجيب محفوظ ومسرحيتى عبد الرحمن الشرقاوي: "الحسين ثائرا" و"الحسين شهيدا" ناهيك عن كتاب "الحسين أبو الشهداء" لعباس محمود العقاد.
ومنذ نهاية القرن التاسع عشر ظهرت الكتابات الحديثة حول احتفالات المولد فى كتاب "الخطط التوفيقية الجديدة" الذى وضعه على باشا مبارك فيما تفاعل روائيون مصريون كبار مثل يحى حقى وعبد الحكيم قاسم مع هذه الاحتفاليات كما يتجلى فى ابداعهم الروائى وكذلك فى السير الذاتية لآباء ثقافيين فى قامة الدكتور طه حسين والدكتور سيد عويس، ناهيك عن الأديب النوبلى المصرى نجيب محفوظ الذى يشكل التصوف على وجه العموم معينا صافيا فى روافد إبداعه الروائي.
وبقدر ما نشأ مولد إبراهيم الدسوقى وتطور متفاعلا مع الشخصية المكانية والثقافية لمدينة دسوق، فإنه يعيد تشكيل المكان فيما القمم العالية لمآذن المسجد تكللها حبال من الأضواء الملونة التى تنساب من المسجد بإشراقات فوق الشوارع والأزقة وتضاريس البنايات والأناشيد الإيقاعية للذكر الصوفى فى محيط الاحتفال بالذكرى العطرة لمولد القطب الصوفى الكبير الذى تشارك فى احتفالاته 77 طريقة صوفية من مختلف أنحاء العالم.
والقطب الصوفى إبراهيم بن عبد العزيز أبو المجد الملقب بإبراهيم الدسوقي، نسبة لبلدة دسوق، ولد عام 1255 وقضى عام 1296 وقد تأثر بأفكار أحد أكبر أقطاب التصوف وهو أبو الحسن الشاذلي، كما عاصر السيد أحمد البدوى الذى كان يقيم فى طنطا وتواصل معه، فيما تولى منصب "شيخ الإسلام" فى عهد السلطان الظاهر بيبرس البندقدارى وكان يهب راتبه من هذه الوظيفة للفقراء.
ومع التحام الليل والنهار بالبهجة والأضواء والحيوية والروح المصرية المحتفلة بالحياة والمحبة للصالحين مثل القطب الصوفى إبراهيم الدسوقى يتوزع المكان ما بين كل أنواع البشر وتعدد المستويات الاجتماعية والثقافية، فيما تقف مصر شامخة فى مواجهة قوى البغى ومدافعة عن وسطيتها، وتسامحها، وتنوعها، وأسلوبها فى الحياة البعيد فى الأصل كل البعد عن التعصب والتطرف.
ويتجلى ذلك فى كتابات عديدة وإصدارات للثقافة الدينية فى مصر مثل الكتاب الجديد الذى صدر بعنوان "القبس الخالد فى رسالة التوحيد" للراحل محمود عز الدين بركات الذى قضى العام 1972، وعمل لسنوات طويلة كإمام وخطيب "مسجد حسين بك" بالمنصورة، فيما يتميز الكتاب الذى يكاد يقترب من الـ 300 صفحة بروح صوفية وتأملات إيمانية فى قضايا شتى من بينها الإرادة والعلم والحياة والوجود.
وقد يعيد هذا الكتاب بروحه الشاعرية، وأشعاره للأذهان أن القطب الصوفى إبراهيم الدسوقى كان صاحب ذائقة شعرية وإبداعات فى القصيد، فضلا عن وسطيته وتسامحه وشخصيته المنفتحة التى ابتعدت عن كل غلو فى رحلة البحث عن الحقيقة.
وها هى مدينته دسوق تفتح ذراعيها لكل ألوان البشر، وهنا يتجلى معنى التصوف المصرى فى أيقونة صنعها التاريخ وحوارات الأزمنة بعفوية ودون تصنع أو تكلف وتتصافح إبداعات متعددة لتمنح المزيد من الحضور والزخم للمجازات الذهنية والأدوار الرمزية للمدينة، كقطب جاذب فى ثقافة المكان للإبداعات الأدبية والفنية.
وذاكرة دسوق "كمنطقة فوق العادة" على حد تعبير مانويل كاستلز عالم الاجتماع الثقافى والاتصال الجماهيرى هى ذاكرة صوفية بامتياز ولها حضورها الكونى وعشاق حول العالم، فيما تحتفظ جامعة ليدن بهولندا بنسخة نفيسة من كتاب "الجوهرة" بقلم القطب الصوفى إبراهيم الدسوقي.
وككل عام أخذت مدينة دسوق زينتها بالأنوار والبيارق بينما تتكاثر حلقات الذكر مع بدء الاحتفال رسميا بمولد إبراهيم الدسوقى الذى قال ضمن أشعاره الصوفية: "سقانى محبوبى بكأس المحبة/ فتهت عن العشاق سكرا بخلوتي".
ولا ريب أن مدينة دسوق الملقبة بعروس النيل، كعلامة دالة على الهوية والانتماء المصري، هى بلدة مؤسسة للبهجة الإيمانية، كما أنها تعبر ببساطة وبلاغة معا عن ثقافة المصريين المنتصرة للحياة والمحتفلة بها فى كثير من التعبيرات والإشارات والإيماءات ما بين مفردات اللغة وتبادل التحية وسلوكيات السماحة والتسامح وطقوس الترفيه وفضاءات الحميمية والفطرة الطيبة، ولكأن الإنسانية كلها انخرطت واندمجت فى لياليها أثناء الاحتفال بمولد إبراهيم الدسوقي.
وعندما يتوافد الآلاف من كل مكان للمكان الذى تحول فى مخيالهم الجمعى إلى شارة عز ونفحات إيمانية فوق خرائط المجد المصرية تصنع المدينة المصرية التى يتجاوز عدد سكانها الـ 100 ألف نسمة "صورتها الخاصة من متن ذكرياتها فى المولد الدسوقى التى تصنع سيرة عشق للمكان".
وتضفى الطرق الصوفية بمريديها الكثير من طقوسها، ومباهجها على المكان أثناء المولد الدسوقى بمحيطه وشوارعه ودروبه وخاناته ووكالاته وأزقته ومقاهيه وشخوصه وحكاياته المتناسلة عبر مسيرة الأجيال وحنين النوستالجيا ومنابع البراءة النقية.
ومن نافلة القول إن نفحات موالد أقطاب التصوف تشكل واحدة من أغنى مصادر الإبداعات فى عالم المتصوفة، وها هو الشاعر أحمد سويلم يؤكد تأثره بتقاليد الطفولة، وحلقات الذكر باعتبار أن والده كان من كبار مشايخ المتصوفة، ويوضح أنه عبر هذه الحلقات عشق شعر ابن الفارض، وهو ما فتح عينيه على الشعر وغرس حبه فى نفسه.
ولئن كان المعنيون بالتصوف يذكرون بالحقيقة التى تقول" إن الذين تركوا بصمات واضحة وثابتة فى الثقافة الإسلامية هم العلماء الذين جمعوا بين قلب الصوفى وعقل الفيلسوف لأن القلوب ترطب حسابات العقول ولأن العقول تضبط خطرات القلوب"، فإن هذه الحقيقة دالة على أهمية المزج بين القواعد العلمية الذوقية والمصطلحات الفنية المشتقة من صميم التجربة الوجدانية الصوفية المتميزة.
وفيما تحمل أيام مولد إبراهيم الدسوقى أنفاسا صوفية محببة، فإن هناك العديد من الكتب التى صدرت لكتاب معاصرين عن ثقافة التصوف والصوفية المحلقين بالحب للخالق الواحد الأحد فى هذا الكون، وقد تكشف بعض هذه الكتب عن جوانب طريفة مثل علاقة المتصوفة بالموسيقى.
وفى كتاب "كتب وناس" يقول الكاتب والروائى الراحل خيرى شلبى إن تحرر الموسيقى الغنائية المصرية من الروح التركية بدأ بشكل مكثف فى أوائل القرن العشرين على أيدى أقطاب الطرق الصوفية، موضحا أنهم استخدموا الموسيقى عن وعى عميق يحكمه دور مقصود.
وحسب رؤية خيرى شلبي، فإن الطرق الصوفية أعادت الموسيقى إلى أصولها كعنصر فاعل فى توصيل الذاكرين إلى مرتبة الوجد الصوفى ووضعوا مقامات شهيرة وقسموا هذه المقامات تبعا لمراحل بلوغ الوجد الصوفي.
وللصوفى الشهير محيى الدين بن عربى قول مأثور ضمن رسالة كاملة من مأثوراته حيث يقول " كل فن لا يخدم علما لا يعول عليه"، وفى ضوء هذه المقولة يتبين أن إبداع الصوفية فى الموسيقى كان يخدم علم الموسيقى.
ومن عباءة المنشدين خرج الذين طوروا الغناء العربى ووصلوا به إلى ذروة عالية من القدرة على التأثير القوى فى الوجدان حتى أن الذين نبغوا فى الغناء الدنيوى هم أولئك الذين هضموا المقامات الصوفية واستوعبوا تجلياتها كابرا عن كابر، كما يقول التعبير العربى الشهير، ومعظمهم كان يعمل فى بطانات المنشدين القدامى، ثم أصبحوا بدورهم أعلاما لهم بطاناتهم الخاصة التى يتخرج فيها أعلام جدد.
فليس صدفة إذن أن أعلام فن الموسيقى والغناء فى مصر فى أوائل القرن العشرين وأواسطه، كانوا شيوخا ومنشدين مثل محمد عبد الرحيم المسلوب ودرويش الحريرى ويوسف المنيلاوى ومحمود صبح وأبو العلا محمد وعلى محمود وزكريا أحمد وسيد درويش.
ومن هنا لم يكن غريبا أن يلفت عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين للأهمية الثقافية لفنون التلاوة والتجويد والإنشاد والموسيقى على وجه العموم كتشكيل للزمان وهو مجال أسهم فيه المتصوفة بالكثير بقدر ما تتوزع إسهاماتهم الثقافية على مجلات عدة وبعضها لا يخلو من تداخل وتشابك مثل مجالات البلاغة والفن والجمال.
وفى مناسبة كمولد إبراهيم الدسوقى تتوالى النفحات الصوفية ورموز وأعلام التصوف مثل محيى الدين بن عربى وجلال الدين الرومى والحلاج وابن الفارض وأبو الحسن الشاذلى وأبو العباس المرسى والسيد البدوى وصولا لعبد الحليم محمود ومحمد متولى الشعراوي.
ويتيح الحب تفهم حالات الوجد والتوحد التى تتلبسهم، فيما يستعرض البعض حالات لأعلام المتصوفة مثل الحلاج الذى كانت مأساته عنوانا لمسرحية شعرية للشاعر المصرى الراحل صلاح عبد الصبور، والنفرى "صاحب الوقفات والمخاطبات"، وابن الجوزى والسهروردي، ناهيك عن أبو الحسن الشاذلى وأبو العباس المرسي.
ويتفق العديد من المثقفين فى مصر والعالم العربى على وجه العموم على أهمية الدور الذى ينهض به التصوف فى تعزيز قيم التسامح ومواجهة التطرف، فيما أضحت التربية الأخلاقية فى التصوف الإسلامى فى بؤرة اهتمام الدرس النفسى والاجتماعى والديني.
وفى الثقافة الغربية ثمة اهتمام كبير وواضح بالتصوف، ويعكف بعض المفكرين هناك خاصة من المتخصصين فى قضايا التصوف والصوفية على بحث دور التصوف فى تذليل العقبات أمام الحوار بين المختلفين دينيا وعقائديا، مثل ذلك الكتاب الذى أصدره المستشرق الإيطالى وأستاذ التصوف الإسلامى الدكتور جوزيف سكاتولين بعنوان "تأملات فى التصوف والحوار الديني".
وإذا كان المستشرق الفرنسى الراحل لويس ماسينيون قد اشتهر بكتابه الصادر فى جزئين بعنوان: "عذاب الحلاج شهيد التصوف فى الإسلام"، فإن للدكتور جوزيف سكاتولين عدة كتب فى التصوف منها "ديوان ابن الفارض"، و"التجليات الروحية فى الإسلام"، وجاء كتابه "تأملات فى التصوف والحوار الديني" فى جزءين يتناول الجزء الأول موضوع الحوار الدينى وأبعاده فى عصر العولمة، بينما يركز الجزء الثانى على عالم التصوف والحياة الدينية الروحية.
وكما فى نشوة الصبا تبدع اللغة أجمل الأشياء، فإن الصوفية الحقة وهى تحمل المتعة الروحية والراحة والسلوى من آلام الحياة تقترن أيضا بالتفاؤل والإيجابية، فيما سيبقى دور الطرق الصوفية فى نشر الإسلام بأفريقيا وآسيا محفورا بحروف من مجد فى الذاكرة الإيمانية للأمة.
ولعل ثمة حاجة لمزيد من الاهتمام البحثى فى مجالات الثقافة والمأثورات الشعبية والأنثربولوجى والفلسفة والتاريخ والاجتماع بالواقع الصوفى فى القارة الأفريقية، فيما تؤكد مؤشرات عديدة على قوة وفاعلية وأهمية دور التجمعات الصوفية فى الحياة الأفريقية وخاصة فى تلك المناطق الواقعة غرب القارة السمراء.
وتجليات المشاعر الصوفية قد تجعل بعض الناس من أصحاب الأذواق الرفيعة يحسون بالحقيقة، كما لو كانت شيئا ماديا، وعندئذ تختلط المادة بالمجرد، فإذا بهؤلاء الذين لا يتصورون المجرد يبصرونه ويلمسونه وقد انزاح الفاصل بين المجرد والمادي.
وللكلمة عند الصوفية مجد وأى مجد، ولعل فهم ثقافة التصوف يقدم إجابة لسؤال مثل: "كيف يمكن لكلمة بفضل ما تعنيه من شكل وموسيقى وعلاقة بغيرها من الكلمات ان تكون صاحبة شخصية ككائن حى وقوة سحرية بقدر ما تعبر عن نفس إنسانية؟".
وحسب تقديرات الدكتور عبد الهادى القصبى رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية فى مصر، فإن عدد المتصوفة على مستوى العالم ككل فى ضوء البيانات المتاحة يصل إلى 200 مليون شخص، فيما ينوه باحث جاد مثل الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجى الأستاذ بجامعة القاهرة بانخراط العديد من المتصوفة المصريين فى الأنشطة ذات الطابع الوطني.
والعلاقة بين الصوفية وطلب الحق والحقيقة وثيقة للغاية، بقدر ما تصب فى مجرى ثورة العقل والضمير والوجدان وتؤسس لمزيد من ثقافة السؤال وتشد بالفضول المعرفى باحثين غربيين للكتابة عن مصر المتصوفة.
وفى دراسة مستفيضة للرؤية النقدية لابن خلدون للصوفية على مستوى الخطاب والفلسفة والسياسة، أظهر الباحث جيمس ونستون موريس المتخصص فى الفلسفة الإسلامية والحاصل على الدكتوراة فى لغات وحضارات الشرق الأدنى من جامعة هارفارد، اهتماما كبيرا بالجوانب والأبعاد الاجتماعية- السياسية والمعرفية للصوفية، مؤكدا أن التصوف كان بمثابة المعين الصافى والمنجم الثرى للكثير من التجليات والصيغ الإبداعية بعيدة الأثر فى الثقافة والحياة بالعالم الإسلامي.
وهكذا لم يكن من الغريب أو المدهش أن يقف مفكر فى حجم وقامة ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، أمام التصوف بالتأمل والتحليل عبر الإبحار فى هذه الموجات الإبداعية المتشابكة والمعبرة عن الأبعاد الثقافية للتصوف بجذوره العميقة فى الوجدان العربى - الإسلامي.
وعلى طريق المعرفة، ولج مفكرون مصريون وعرب من أبواب ثقافة التصوف ساعين للنهل من هذا العالم الثرى وتحتفظ الذاكرة الثقافية العربية بإسهامات جليلة لأستاذ الفلسفة الراحل الدكتور عبد الرحمن بدوى صاحب كتاب "شهيدة العشق الإلهي".
وكان الأديب المصرى الراحل الدكتور زكى مبارك قد قدم للمكتبة العربية كتاب "بين التصوف والأدب"، كما قدم الإمام الأكبر الراحل وشيخ الجامع الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود سلسلة غنية من كتب التصوف والثقافة الصوفية، فيما أبحر صاحب نوبل وهرم الرواية المصرية والعربية نجيب محفوظ فى التصوف ضمن بحاره الإبداعية، كما يتبدى على وجه الخصوص فى رواية "ليالى ألف ليلة".
وإذا كان السؤال المؤرق للمبدع العظيم نجيب محفوظ قد انصب على النظام الذى يحكم الكون، فإن إجابته الإبداعية على هذا السؤال الكبير والتى تجلت فى إبداعات روائية عديدة إنما اعتمدت إلى حد كبير على معين التصوف وإشراقات الصوفية.
كما تعاطى المبدع الراحل جمال الغيطانى مع أسئلة الحياة والموت، فيما اعتبر أن الرحيل عن الحياة الدنيا مفتتح لبدء جديد وسكة مغايرة، فجمال الغيطانى الذى تأثر أيما تأثر بالموروث الثقافى الثرى لأعلام المتصوفة واجترح لغة أقطاب التصوف وفى مقدمتهم النفرى وابن عربى وجلال الدين الرومي، كان "صاحب موقف صوفى حيال الموت"، ولعل عمله الثقافى الابداعى الكبير "التجليات" من أهم أعماله التى تحوى تبصراته وتأملاته فى رحلة المسير والمصير الانساني.
وبروحه الإيمانية استقر فى وجدان الغيطانى قول الحق: "وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت"، بينما بدا صاحب جائزة النيل فى الآداب مشغولا فى كتاباته الأخيرة بفكرة "الوداع"، كما يتجلى فى "دفتر الدفاتر" الذى تضمن عنوانين دالين: "فى وداع أشياء"، و"فى وداع أماكن".
وإذا كانت الثقافة الصوفية فى أحد معانيها قراءة مجاهدة للذات والوجود ثم الكتابة أو الشهادة بعد هذه القراءة، فإن تلك الثقافة لها مددها الفنى الإبداعى كما يتجلى فى مولد القطب الصوفى إبراهيم الدسوقى كل عام بأرض الكنانة.. إنها مصر التى تهدل بالحب ولا تشبه إلا ذاتها.