يطرحُ كتاب "التحوّل العَولمى للعلوم الاجتماعيّة" الصادر عن مؤسّسة الفكر العربى، من إعداد وتنسيق ألان كاييه وستيفان دوفوا، وترجمة الدكتور جان ماجد جبّور، إشكالية العلاقة القائمة ما بين العَولمة وتطوّر الأبحاث فى ميدان العلوم الاجتماعية. فمنذ ستينيّات القرن الماضي، ظهر فى بعض قطاعات العلوم الإنسانية والاجتماعية وعى بالتحوّل المكانى للعالَم. إلّا أنّ هذا الوعى لم يفرض نفسه حقاً إلّا بدءاً من منتصف ثمانينيّات القرن الماضى فى العلوم الإنسانية والاجتماعية المكتوبة بالإنكليزية – أنتروبولوجياً وسوسيولوجياً- قبل أن ينتشر فى جميع أنحاء العالَم الأكاديمي، وذلك من خلال الإسم "عَوْلَمَة" والصفة "عَوْلَميّ".
هذا "الاكتشاف" لـِ "العَوْلَميّ" غيَّر بالطبع، وبالعمق، فى مفرداتنا وفى نظرتنا إلى العالَم، لكنّه ترك كذلك أثراً مهمّاً على الخطوط العريضة لمختلف اتّجاهات العلوم الاجتماعية، كما على العلاقات المُتبادَلة فى ما بينها. إنّ الانطباع السائد بأنّنا نشهد ولادة عالَم جديد، استدعى إعادة تشكيل المشهد الأكاديمي، والتفتيش عن عِلم جديد أو أكثر، على غرار ما حصل فى مطلع القرن التاسع عشر مع ولادة المجتمع الصناعي.
من هنا، نُظّمت مؤتمرات عديدة لتجيب على السؤال "هل من المُمكن (أو من المرغوب فيه؟) إيجاد نظرية سوسيولوجية عامّة فى زمن العولمة؟" ثمّ توسّعت التجربة من خلال التطرّق على وجه التحديد إلى موضوع العولمة من زاوية معرفية فى محاولةٍ للأخذ فى الاعتبار التحوّلات التى طرأت على تخصّصات العلوم الاجتماعية بسبب بروز هذه الظاهرة. إذا كان هذا التحوّل لم يتّخذ شكلاً مُتشابهاً، أو لم يكُن بالكثافة نفسها فى جميع البلدان، فإنّه دفع دوماً على ما يبدو باتّجاه التقارب بين تفرّعات التخصّصات المَعنيّة، وشجّع على مستوى الخطاب والمَراجع المُستخدَمة، على تزايد التداخل بين التخصّصات. حينها طُرح السؤال حول معرفة ما يُمكن أن يكونه هذا الشأن العَولمي، وبالتالى ما هى المفاهيم والنظريّات والمُقاربات التى تجعلنا نحيط بهذا الشيء الجديد. من ناحية أخرى، إنّ التعريف المُعطى لهذا التيّار الجديد فى الدراسات التى أخذت على عاتقها التصدّى لهذا الأمر، يشكّل تحدّياً بحدّ ذاته: هل ثمّة " دراسات عَولميّة"؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، هل تراها تتشكّل من الجمع بين تشعّبات التخصّصات فى إطار التداخل فى ما بينها، أم أنّها أصبحت تشكّل بالفعل تخصّصاً جديداً؟
فى محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة نُظِّم فى باريس فى سبتمبر 2010، فى مختبر سوفيابول التابع لجامعة باريس الغربية- نانتير- لا ديفانس، وبمساعدة قسم العلوم الاجتماعية فى اليونسكو، مؤتمر دولى دُعى إليه حوالى عشرين مشاركاً من علماء الاجتماع والأنتروبولوجيا والمؤرّخين والجغرافيّين والفلاسفة المشهود لهم. كان لهذا المؤتمر منحىً تعدّدى التخصّصات، ولم يكن القصدمن عقده فهم تأثير وعى "العَولميّ" على التخصّصات القائمة فقط، وإنّما أيضاً إدراك التداخل بين التخصّصات التى أطلقها اكتشاف هذا الشيء المُشترَك "العَولميّ"، فيقتضى الأمر حينها إمّا التفكير سويّة انطلاقاً من وجهات نظر أو مرتكزات مختلفة، أو العمل على تأسيس تخصّص جديد، "الدراسات العَولميّة".
إنّ أوراق العمل المقدّمة فى هذا المؤتمر تشكّل لبّ هذا الكِتاب، وهى تجيب على مجموعة من الأسئلة العامّة: هل كان لدى مؤسّسى علوم التاريخ والأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا والجغرافيا رؤية عن الشأن العَولميّ؟ أين يوجد العَولميّ؟ هل إنّ العَولمى مفهوم يفى بالغرض، أم أنّها مجرّد تسمية تستدعى وضع تصوّر مفاهيمى لها؟ هل إنّ العَولميّ، الذى هو فى الظاهر مُتداخل التخصّصات ولا يُقيم وزناً لمسألة الحدود، عابرٌ للأوطان والتخصّصات؟ هل يُمكن للعَولمى أن يكون فى أساس نظرية عامّة؟
أسماء معروفة من مختلف البلدان ومختلف التوجّهات الفكرية تُشارِك فى هذا النقاش، من بينها: ألان كاييه، ستيفان دوفوا، ميشال فيفيوركا، لسلى سكلير، ساسكيا ساسّن، باولو هنريكى مارتينز، جون ر. ماك نايل، جاك ليفي، بيغى ليفيت، بول كينيدى، جوناثان فريدمان، جوليت فال وغيرهم.
من الاستنتاجات الأولى لمجمل الآراء المقدّمة، أنّ العولمة تُبرز بشكل متزايد إشكاليّة التقسيمات الموروثة بين التخصّصات القائمة: الفلسفة، عِلم الاجتماع، الأنتروبولوجيا، الدراسات الأدبية، التاريخ، الجغرافيا...إلخ. فالخطابات الجديدة التى تظهر على المستوى العالَمي، فى جامعات العالَم بأسره، كخطاب الثقافة وما بعد الاستعمار والجنس والدراسات الثانوية، ونظريّات الاعتراف أو الرعاية، كلّها تتمدّد على تقاطع كلّ التخصّصات ولا تسمح لأى تخصّص بأن يستوعبها، وتُفلت من أى مأسَسَة أكاديميّة. لذلك، وطالما أنّها تدّعى التعبير عن شيء مُغاير، فيبدو أنّها تتحدّث إمّا باسم أجزاء من تخصّصات قديمة، وإمّا باسم تخصّص مستقبلي، أو تخصّص احتمالى يكون ما فوق أو ما دون التخصّصات القائمة.
أى طريق يجب أن نسلك؟ يسأل الباحثون فى هذا الكِتاب. فالتخصّصات، مثل الدول القومية، قد تخطّاها الزمن ولكن فى الوقت نفسه لا يُمكن تخطّيها، وهو حال قد يستمرّ لفترة زمنية طويلة. إلّا أنّها كذلك فى تباعدٍ مُتزايد عن العولمة. لا بدّ إذاً من رفدها بمؤسّسات تتيح تنفيذ مهامّ التعليم والبحث والتفكير الميتا تخصّصي. وكما لا تتوافر حظوظ كبيرة لقيام دولة عالمية فى مستقبل منظور، كذلك ليس من المجدى أن نغذّى الآمال بظهور معرفة عبر- تخصّصية تُظلِّل العلوم القائمة. فى المقابل، من الضرورى للغاية أن تتجنّب هذه التخصّصات الانطواء الوطنى والشوفينى على الذات. وهذا أمر قد يسهل تحقيقه مبدئيّاً من خلال قيام تخصّصات ذات طابع عامّ فى العلوم الاجتماعية، تستقطب باحثين ومدرّسين متخصّصين ينتمون الى اثنين أو ثلاثة اختصاصات –على سبيل المثال، عِلم الاجتماع، التاريخ، الجغرافيا، الأنتروبولوجيا، الفلسفة، الاقتصاد...إلخ. إنّه تداخل الاختصاصات الذى نحتفى به دوماً بالكلام، ونرفضه بقوّة فى المُمارسة.
إلّا أنّه على الرّغم من كلّ هذه الجهود، لم تتمكّن عولمة التخصّصات فى حالتها الرّاهنة من إنتاج نظام عالَمى للمعرفة قابل للتعميم عالميّاً، كما لم تتمكّن من تطوير ثقافة عالمية حقيقية، قادرة فى الوقت نفسه على احترام الخصوصيات بما تمتلك من شرعيّة، وعلى بلورة مبادئ إنسانية مُشتركة قلباً وقالباً. فتحوُّل الأُمم والعالَم باتّجاه التعدّدية الثقافية والتعدّدية الإثنية أَنتج محلّياً نموذجاً شائعاً، لكنّه لم يُنتج كونية حقيقية ما بعد وطنية.
هكذا رسخ الاعتقاد لدى الباحثين بوجود مستويَين كبيرَين متميّزَين (وطنى وعَولميّ، مع كلّ ما يرتبط بهما من مستويات) يُمكن أن يوحى بأن التعايش قد يكون كافياً، على صورة التعايش بين نظرية النسبية، الضيّقة أو العامّة، ونظرية الكمّ، والاثنتان تُعتبران صالحتَين، وإنّما على مستويات مختلفة. مع ذلك، ومنذ عقود عدّة، هناك باحثون يسعون وراء "النظرية الكبرى" التى تتيح التوفيق بين الآليّتين.
أخيراً يرى الباحثون أنّ معظم التنظيرات السوسيولوجية العامّة القائمة أخطأت بفعل إفراطها فى النسَقية. فهى انجرفت كثيراً باتّجاه ادّعائها امتلاك جواب على كلّ شيء. وواقع الأمر أنّ هذا الادّعاء يتعارض تماماً مع روحيّة العلوم الاجتماعية التى تنطوى على الانفتاح الأوّلى على التجريبية، لقناعتها تحديداً بأنّ الواقع الاجتماعى والتاريخى هو أكثر اتّساعاً وثراءً وتعقيداً لكى يتمّ فهمه واستيعابه من قبل بعض الآليّات المفاهيميّة التى يُمكن تخيّلها.