كتبت إيمان الزيات عن رواية خمارة العبد للدكتور بهاء عبد المجيد، مبينة المميزات التى احتوت عليها الرواية متعددة الأصوات.
يقول أرسطو: (الأدب ما هو إلا محاكاة للواقع).
لكل مجتمع عفاريته، وغيلانه، أشباحه، ومسوخه التى تحوم حول أفراده، وتسبح فى مخيلاتهم. لكل مجتمع طوطمه، وتابوهاته، ولكل فرد فى المجتمعات الغربية منها والشرقية منغصاته الشخصية، ومخاوفه الخاصة التى ما فتىء الأديب الدكتور بهاء عبد المجيد يرصدها داخل عمله الروائى المائز "خمارة المعبد"، ومن خلال مشاهدات بطله الرئيس "معتز" وتلك المقارنات.. "الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والدينية، والسياسية" التى يقيمها بين مجتمعه المحلى بعضه ببعض، وبين المجتمعين الشرقى والغربى من جهة أخرى، حتى يثبت أن الجميع فى النهاية يقف تحت مظلة المعاناة البشرية.
الرواية تحمل بُعداً نفسياً عميقاً لا يمكن بأى حال من الأحوال أن نغفله إذا ما كنا بصدد الحديث عنها، الأحداث مسجَّلةً فيها على نحو ذاتى تلعب فيها عمليات الوعى دوراً مشوِّقاً يَعْدل دور الأحداث الخارجية أو يفوقُهُ أهميةً، ففى رواية (خمّارة المعبد) تُقدَّم الأحداث، لا وفقاً لتسلسلها الزمنى ولكنْ كما تتداعى فى ذهن البطل الرئيس (معتز)، حيث نجد الزمن فى هذا النص ينحرف أحياناً نحو الماضى ويستبق لاستشراف المستقبل، أو يكون آنياً يصف لحظة وقوع الحدث وتداعياته فى نفس السارد المشخصن.
تمتاز أيضاً الرواية بتموضعها داخل إطارٍ من السرد الاجتماعى الذى يستعرض، وبلغة شاعرية مرهفة ما بداخله من منمنمات شعورية، ومفردات وجودية، ومسائل إنسانية، تماماً كما كان يصيغ رواد الروايات النفسية (جيمس جويس)، و(فرانز كافكا)، و(مارسيل بروست) سردهم الروائى.
ابتدأ (بهاء عبد المجيد) رائعته بحالة متناصة فى أولها مع القرآن الكريم، مُؤهلاً القارئ بذلك للولوج إلى النص بطريقة شعورية، وموضحاً نوع المعاناة (الجسدية، والعقلية) التى سيجابهها البطل، والتى مقصدها ومردها تزكية الروح، لا الإطاحة بصاحبها.. فنجده يقول:
"سنلقى عليك حدثًا ثقيلا
انحنِ
وبخشوع وتقوى ادخل المعبد
ألق البخور على الجمر
وقدم القرابين وتناول الخبز والماء المقدس
وتجرع الخمر ولا تخشَ
فلن تذل و لن تسكر .
فالحب السماوي
لن يذهب بعقلك و لا بجسدك
فالروح هى المقصد.."
قسّم (عبد المجيد) روايته إلى (45) فصلاً، بدأ أول فصولها فى القاهرة وبتاريخ 2003 لتحدد بداية الزمن العام للرواية. وقام الكاتب بتوطئة بعض فصول روايته باقتباسات، ومقاطع من (رواية جيمس جويس: عوليس، برام ستوكر: دراكولا، دى.إتش. لورانس: رواية قوس قزح، نجيب محفوظ: الحرافيش)، وغير ذلك من الأشعار والأغنيات العربية والأيرلندية، مقاطع تتسم بكونها ذات طابع (فكرى و إنفعالي) فى الفصول التى تختلط فيها أفكار البطل، وتختلط مشاعره، ثم ما تلبث تلك (الإبجرامات) أن تعود لسيرتها الأولى فتتخذ ثيمة (مكانية، وزمنية، وحدثية) فى الفصول الأخيرة حيث يكون لجميع المفردات الخارجية كالزمان، والمكان، والحدث الحضور الأهم فى السرد، والتأثير الأكبر على الشخصية التى من خلالها تتمظهر جميع الإشكاليات.
فمعتز الذى يحصل على منحة دراسية فى (أيرلاندا) فيجد فيها المهرب من وطأة حب لا يستطيع البوح به، والملاذ لحلم جديد ببلد آخر وعالم مختلف يمكنه أن يحقق فيه ذاته.
حرية مشروطة فى القاهرة، اعتقدت أن رحيلى إلى "دبلن" فرصة لأبحث فى هويتى عن وجودى وعن جذورى بعيدًا عن كل المؤثرات. سأكون أنا.
يسافر معتز ويقع بين براثن الغربة وظروفها الصعبة ويفشل فى اجتياز صعوباتها الاجتماعية، والمادية ويعانى من كبح شهواته والالتزام بعقيدته تحت وطأة المغريات، يتعرض للاضطهاد، ويعمل فى بيع الزهور، ويتهم فى جريمة تزييف للعملة، يخرج منها ليحطم بداخله الحدود ويعيش بعبثية تصل أخباره للجامعة التى ترفض مد فترة الدراسة له، فيفشل فى استكمال بعثته وتحقيق حلمه الذى احتمل من أجله الكثير، ويعود للقاهرة ويقابل (سهام) ويصطدم ببشريتها ويعرف أنها ليست ملاكاً ولا شيطاناً، تصر الأم على أن يتزوج من (علياء) ويفعل، لكنه يكون كالبركان الذى وصل لاكتمال الغليان والتأجج فتفشل زيجته، وينهار تماماً فيغيب عن الواقع ويتعامل معه بهيستيرية، إلا أن وقوف عائلته إلى جواره يعيد إليه بعضاً من توازنه النفسى فيشاهد الواقع ويتأمله منتهياً ببارقة أمل وكأنه ميلاد آخر سيحدث، أو أن القمر قد أكمل دورته.
وُفق الكاتب تمام التوفيق فى اختيار اسم بطله (معتز) الذى ظل معتزاً ومتمسكاً بعقيدته يردد على نفسه ما حفظ من آيات، وأدعية فى الكرب والفتن ليذكرها ويثبتها.
معتزاً بالحفاظ على صورة وطنه نقية وناصعة؛ فلم يلجأ فى أشد حالات احتياجه للحصول على معونة كمضطهد أو كلاجيء سياسى كما فعل آخرون، وكذلك اختياره اسم (سهام) الدال على الجرح، والغاية، و اسم (علياء) الدال على السمو على الدنايا.
وتتجلى إحدى الدلالات السيميائية فى النص بعنوان الفصل الأول (بزوغ القمر) حيث تتماهى أطوار القمر منذ بزوغه وحتى اكتماله مع مراحل تشكل البطل الرئيس وحالاته من بزوغ، وتشكل، واكتمال، ثم محاق وما بينهم من كسوف شبيه بالعدم، ثم عودة للميلاد أو البزوغ الجديد، تماماً كما حدث لمعتز.
كان الكاتب موفقاً فى انتقائه لنمط الشخصية (الاعتمادية) ليكون بطلاً لروايته؛ فمعتز شخصية إشكالية، طوباوية مرهفة، ومبدعة لكنها اتكالية وهشة. تدهورت حالته فأصبح مريضاً نفسياً يعانى من الهلاوس السمعية والبصرية، ويعالج بالكتابة «رايتنغ ثيربي». شخصية تفكر فى الانتحار للخلاص من حياتها، تتميز باضطراب أساسى فى العلاقات الواقعية وتكوين المفهوم، واضطرابات وجدانية وسلوكية، كما تتميز بميل قوى للبعد عن الواقع وعدم التناغم الانفعالى والاضطرابات فى مجرى التفكير والسلوك الارتدادي.
شخصية واهنة تتسم بالاعتماد الزائد على الأخرين، وهذا الاضطراب هو حالة طويلة المدى يعتمد فيها الشخص على غيره لإشباع احتياجاته النفسية والجسدية، مع تحقيق درجة ضئيلة جداً من الاستقلالية.
غالباً ما ينتابه شعور بانعدام الراحة أو العجز عندما يكون وحيداً، بسبب المخاوف المبالغ فيها من عدم قدرته على رعاية نفس، .يشعر بالرهبة من فكرة أنه عرضة للهجر، وحيداً إلا عند تواجده بالقرب من الأشخاص الداعمين له.
يقول الكاتب فى فصل (دموع السماء) على لسان البطل: "ثم هرولت تجاه القطار وهى تنظر إلى الخلف، وبعدما اختفت شعرت بالخواء والتعب، واليأس. شعور يراودنى كثيرًا بعدما أترك المرأة. وأحيانًا يراودنى الشعور بالحنين والانهزامية. احترت فى تفسيره كثيرًا، وعندما بدأ يتكرر، قررت أن أقلل وجودى بين النساء".
وهذا يعكس لنا علاقته الإشكالية غير الناجحة بالمرأة، ونوعية معاملاته التى كانت سبباً رئيساً فى معاناته، سواءً فى اتكائه على الآخر مادياً ومعنوياً فلقد كان البطل لا يجد غضاضة فى الاقتراض وطلب المساعدة من شخوص الرواية بصفة عامة، والشخوص النسوية خاصة فهو يأكل طعام (تيلدا) فى المساء، ويقترض منها مظلتها فى الصباح ثم يشكو بعد ذلك من معاملتها له، يطلب المساعدة فى حمل الحقائب من الجيران، ويقترض المال من الصديقات.
ثم قامت واتجهت نحو المنضدة وأخذت بعض الحلوى وقدمتها لى كانت قطعًا من الشيكولاتة على شكل قلوب منشطرة، ترددت فى أن أتناولها؛ خفت من لونها. هذه القلوب البنية التى قتلتها الوحدة. لم أكن أخاف الحلوى، ولكن ما بداخل الحلوى، ربما كان سمًّا. ربما تريد أن تقتلنى هكذا أتوجس من النساء دائمًا. مخلوقات جميلة للتأمُّل فقط، أما دخولها فهو الجحيم والجنون. لم أكن أخاف الدخول. بل فى الواقع السم. هذا ما صوره عقلى فى هذه اللحظة، المرأة الشر، أخاف أن لا أعود، كما أنا.
ولقد ظل يبحث عن المرأة الأيقونة التى تشبه حبيبته (سهام) تلك التى جعل منها أنموذجاً مبالغاً فيه، مستحيل الوجود إذا ما قورنت بالأخريات، وراحت ضحيته نساء الرواية جميعهن (حنان، سيمون، وحتى زوجته علياء)، ففى النهاية يكتشف البطل أنه قد صنع صنماً وعبده، قدم إليها قرابين الوفاء ونذر الصوم عن النساء تبتلاً لتلك الكينونة المختلقة، فصار صابئاً عن الحقيقة طيلة الوقت الذى ظن فيه أنه شديد الإيمان.
يقول السارد فى أحد الفصول:"ظهرت لى حبيبتى "سهام" فى سماء الغرفة بأجنحتها الفضية، وتراءت لى دموعها تتساقط فوقى فأغرقتنا و أيقظتنى فأفسدت كل رغبة فى التواصل مع "سيمون".
تناول الكاتب فى سياقه السردى أطروحات، وموضوعات عدة مثل:
(العنصرية، والاضطهاد، الحلم وتحقيق الذات، الحب والحرب، علاقة المحتل بصاحب الأرض، الإرهاب، والسلام، العلم، والثقافة) كما ساق لنا من خلال قراءاته الثرية ومعارفه الخاصة وبمنظور البطل مجموعة مائزة من الأفكار، والقصص، والموضوعات الأدبية، والتأويلات الفلسفية والوجودية، ولعل أهمها كان رؤاه التحليلية لرواية (عوليس) لجيمس جويس التى تماهت فيها شخصية (بلوم) مع شخصية (معتز) فى مرحلة تيهه، وتجواله، وتطوافاته المكانية بشوارع ومكتبات، ومقاهى وبيوت، وكنائس، وحانات مدينة (دبلن) وقد نقل لنا كما فعل (جويس) ما استطاع من (ثقافتها، وجغرافيتها، ومعالمها، وطقسها، وحالتها السياسية، والاجتماعية) وما يعانيه شعبها من ازدراء، وتحقير من جانب الإنجليز، وعلى الرغم من ذلك فبعضهم يمارس الاضطهاد والعنصرية تجاه العرب وللمسلمين.
وكذلك فعل مع أحياء، ومقاهى وشوارع القاهرة وفضاءاتها المكانية المتنوعة (شبرا، المعادى قهوة ريش، الجامعة.. إلخ).
لم تخلُ الرواية من المفارقات الدرامية حيث نقرأ فيها كيف ماتت (سيمون) المُحبة للسلام، إثر تفجير إرهابى للجيش الأيرلندي.
منحت (الغرابة) وقصص أشباح الكنيسة، ومبيت الطلبة بالأزهر وغيرها تلك الفصول التى صيغت فيها جواً من الإثارة والمغايرة.
ولقد استخدم (بهاء عبد المجيد) مجموعة من التقنيات اللافتة والتى تدفعنا إلى وضع هذا النص الروائى فى مصاف (الروايات البوليفونية الحديثة):
- تنوعت الصيغ الأسلوبية لديه فشملت (الخطاب الحوارى والخطاب المسرود، والمنقول، والسرد المشهدى والمنولوج) أو العرض التلقائى من خلال تيار الوعى كما هو الحال فى كتابات (جيمس جويس).
- شاع فى النص واتسع فضاء الصدمات والأزمات والمشاكل، بحيث صارت الأماكن التى يعيش فيها الأبطال أو التى ينتقلون عبرها هى أماكن موحشة وعدوانية وباردة، تثير الاشمئزاز والقلق والغثيان والموت، مهما كانت تلك الأماكن مميزة، و فضاء العتبة هو فضاء الكوارث التى تعصف بالإنسان المقهور داخل مجتمع محبط، تنعدم فيه القيم الأصيلة، وتهيمن عليه العلاقات التشييئية، حيث تتحول القيم المعنوية أو الكيفية إلى قيم مادية واستعمالية قائمة على الغرضية والمنفعة والتبادل.
- تعددية الضمائر: تتميز رواية (خمارة المعبد) برشاقتها التعددية الناتجة عن اجتماع الضمائر بأنواعها الثلاث (المتكلم، والغائب، والمخاطب) فى متنها السردى ولقد أشار الكاتب الفرنسى (ميشال بيتور) إلى روعة التلاعب بالضمائر حين تجتمع فى عمل سردى واحد وإلى الميزات التى تضيفها التعددية على السرد حيث تلعب دوراً إبداعياً ملموساً، وتعكس بتجلياتها الرشاقة الأسلوبية منتجة الدهشة فى نفس القارىء ومحققة مراد المؤلف وغايت، .وأخص بالذكر هنا السرد بضمير (المخاطب)؛ فضمير المخاطب (أنتَ/ أنتِ) ممثل عن المتلقى ومن أجَلِّ مزاياه التى أحدثها بالنص أيضاً:
أنه يستطيع أن يضع الشخصية فى موضع المحاكمة والاتهام والإدانة، وهى حالة ملائمة لنفسية البطل، كما أنه حمل بين طياته كلا من اللغة (الآنية فوصف الحدث فى حالة كينونته، كما حقق تلك اللغة الاستشرافية التى ظهر من خلالها صوت (الراوى العليم)، فى الوقت الذى حمل فيه ضمير (الغائب) مهمة التعبير عن اللغة (الماضوية).
- كما يتمظهر فى النص تعدد الأجناس الأدبية المفعلة بامتياز داخله (كالرسائل، والمذكرات، والحلم، والأغانى والشعر، والتراث الشعبي).
- تعدد الفضاءات المكانية، وانحراف الزمن وتكسره بتقنيات (التذكر، والاستباق، والوصف، والحلم).
- اللغة: حوارية، راقية، ذات مسحة دينية، مفعمة بالشاعرية والتخييل ومتسقة مع الشخوص.
- مثَّل البطل نمط الشخصية (غير المنجزة) تلك الشخصية التى تعيش حالة اللا إنجاز، واللا اكتمال داخل الفضاء السردى الشخصية القلقة التى تعيش المعاناة الداخلية، وتواجه تعقد الحياة، والتى تُعنى بها النصوص البوليفونية على وجه الخصوص.
يستعرض المبدع المرهف (بهاء عبد المجيد) فى آخر فصول روايته حالة الشارع المصرى قبل الثورة، وفوضى الترشيحات والبعثرة التى تفتح الباب على جميع الاحتمالات كنوع من أنواع الإحالة على حالة البطل غير المحسومة، والتى يمكن أن يكتبها القاريء بالسيناريو الذى يميل إليه ويراه صائباً، فبداخل كل منا (خمارة، ومعبد) فبأيهما يلوذ؟ تتوقف الإجابات على اختياره.
لم يعتمد الكاتب على نمط النهاية السوداوية أو النهايات المعضلة، و إنما ترك الباب مفتوحاً على الأمل بجملته الأخيرة " نهاية محتمل أن تكون بداية". واستخدم اللغة الاستباقية، مفعلاً التسويف الذى يحمل بين طياته معنى مؤداه: "إن لم يكن الآن، فسيكون غداً".