"قَالَ هِى عَصَاى أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا"
كما يحتاج الإنسان إلى عصا يتوكأ عليها، ربما لوهنه أو لعجزه أو ليهش بها على غنمه، أو لمآرب أخرى، فإن الشعوب والأمم أيضا تحتاج إلى شىء (تتكئ) عليه فى فترات محددة، ربما لوهنها أو لمآرب أخرى.
وتتعدد الأشياء بتعدد الفترات، كما تختلف (العصى) باختلاف الظروف والملابسات، قد تكون هذه العصا (فكرة) أو مبدأ يتجمع حوله أفراد الأمة ويتوحدوا خلفه ليجتازوا ملمة ألمت بهم، أو ظرفا تاريخيا عسيرا، وقد تكون "عصا أخرى" هى أسلوب الشعب فى تناوله لاحداثه الجسام، فعلى سبيل المثال كانت (نعرة) القومية الألمانية و تفوق الجنس الآرى على باقى الأجناس (عصا ألمانيا) فى اجتياز مأساة هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى، صحيح أن تلك النعرة كانت لها أصولها الأولى قبل الحرب ولكن الاتكاء تحقق بعدها، و لا نعرف على وجه التحديد من منهما ساعد الآخر : هل ساعدت العصا هتلر على تبوأ صدارة المشهد، أما أن هتلر هو من استغل تلك العصا ليهش بها على الشعب الألمانى؟ ام أن كلا الأمرين صادف الآخر فى لحظة مناسبة فتواجدت العصا فى يد من ظنت أنه موسى فأخذ يهش بها و لكن إلى هلاك. وربما فى زمن أخر و مع ظروف اخرى صادفت العصا من هو أهل لها فأجاد استعمالها .
تتعدد العصى وتتنوع بتنوع المستخدم (بكسر الدال) وغرض الاستخدام وزمانه، فمنها المؤقت ومنها الدائم، ومنها المزيف ومنها الحقيقى، لكن القاعدة التى نسجلها من خلال الملاحظة الدقيقة أن كل عصا هى بنت ظروفها، و كما تحمل فى داخلها دلالات و تشير إلى معانِ كذا فان استخدامها يخطئ و يصيب . ولعل أشهر العصى التى يتكئ عليها شعب ما.. هى عصا (السخرية) التى داوم الشعب المصرى على الاتكاء عليها فى كل الظروف، خاصة الظروف الطاحنة، حتى باتت جزءا لا يتجزأ منه، لا تراه بدونها و لا تراها بدونه، و كأنها صمام أمان لحياته أو ربما دليل على أنه يحيا، حتى صار اختفاؤها نذير سوء، وفى نفس الوقت هى تسجيل لحياته نفسها. ألم تكن سخريته من نفسه معينا له لتحمل آلام النكسة؟ ربما تحولت العصا فى تلك الفترة لكرباج يؤلم به نفسه ومبضع يزيد جروحه تمزقا ولكن ليكشف أسباب العلة ويتخلص من ديدان نخرت فى الجسد، لكنه كان قاسيا على نفسه حتى وقف الزعيم ذات مرة يطالبه بالكف عن السخرية من الهزيمة فقد طالت اعصاب الوطن الملتهب.
وقبيل ثورة 25 يناير كان كثيرا من الحديث يدور حول "فقدان روح السخرية، واختفاء الكوميديا من حياتنا" ولم يجرؤ وقتها أحد على تفسير ذلك النذير، أو التنبيه إلى خطورة تلك الظاهرة، إلا أنه بعد الثورة كشف لنا بعض علماء النفس أن الاكتئاب يسيطر على نسبة كبيرة من المصريين وأن الحالة تفاقمت بعد الثورة ( !! ) و تراوحت الارقام بين قائل أن مليون ونصف مصرى يعانون من الاكتئاب و أخر يصل بالرقم إلى 6%، وازاد أحد أساتذة الطب النفسى - فى حوار نشر فى مطلع العام - نسبة المرضى إلى 11% بزيادة سنوية مضطردة، و قيل فى مقال أخر أن نصف الشعب المصرى قد (جرب المخدرات) منهم 30% يتناولونها بشكل غير منتظم وأن مابين 5 و 15% يتناولونها بشكل يومى نتاجا للاكتئاب .
فماذا حدث لعصا المصريين؟
ماذا حدث للسخرية التى جعلت هذا الشعب يتحمل بل يقاوم "انكسار الروح" عبر قرون من الاحتلال وظلم الحكام وتردى الأوضاع؟ أين اختفى الضحك الذين كان دواء جروح المصريين والمعبر عن أوجاعهم، والمسجل أيضا لتاريخهم و مواقفهم؟
فى ظنى – و ليس كل الظن إثم – أن السخرية لم تختف من حياتنا كما يقولون، فكما زادت نسبة الأمراض النفسية زادت أيضا جرعة السخرية وتنوعت أشكالها، ولكن دعونا ننظر للخلف قليلا لنتبين مواضع أقدامنا حاليا.