اتخذ المصريون من السخرية عصا يتكئون عليها، تعينهم على احتمال تقلبات الحياة وعند الضرورة كانت تلك العصا وسيلة لإلهاب ظهور حكامهم، وكأنها تحولت من أداة للاحتماء والاحتمال إلى أداة للهدم والانتقام، فتاريخ مصر يمتلئ بوقائع كثيرة انتقم فيها الشعب من الحاكم بهدم سمعته وتشويه تاريخه، ثم عاشت تلك الوقائع لتصبح تسجيلا لمواقف سياسية بعينها، لكن السخرية من الحاكم المنقولة لنا كمعاصرين لا تعنى بالضرورة أنها صحيحة أو أن هذا هو موقف الشعب فى زمانه، فربما كانت وقائع مغلوطة ساعد على تثبيتها تاريخيا حجم وقوة تأثير المناوئين لذلك الحاكم .
فالخليفة الفاطمى الحاكم بامر الله لم يبق منه – فى الخيال الشعبى وبعيدا عن الدراسات التاريخية الجادة – سوى مجموعة من الحواديت الساخرة حول منعه أكل الملوخية وتحريم خروج النساء للشوارع واستبدال الليل بالنهار فى العمل، إلى آخر تلك المساخر المتداولة والمشاعة عن فترة حكمه، فى حين أن الباحث المدقق سيرى فى نفس الفترة إيجابيات متعددة خاصة فى مجال منع الرشوة ومكافحة الفساد والاهتمام بعدالة القضاء وتحقيق العدالة الاجتماعية وضبط الأسواق ومكافحة الغلاء، وحتى قراراته التى تبدو غريبة كانت لها أسبابها، بل أن بعضا من أفكاره سبقت عصره مثل دراسة أقامة سد لتخزين ماء النيل لاستخدامه فى السنين العجاف .
صحيح أن بعض المصريين سخروا من الحاكم بأمر الله، وابتكروا وسائل متعددة لإيصال سخريتهم إليه برغم شدته وعنفه، إلا أن كثيرين أحبوه، حتى صار الرجل قادرا على التجوال فى الأسواق بلا حراسة، برغم أن عصره امتلاء بحروب مع أعداء على الحدود شرقا وغربا للحفاظ على ملكه، لكن من قاموا باغتيال الحاكم وتصفيته جسديا اغتالوه أيضا معنويا، وساعدهم المؤرخون السنة فى محو أى فضيلة للرجل، ولم يبق منه إلا ما أراد اعداؤه أن يشيعوه عنه .
وفى واقعة أخرى نرى حاكما أساء إليه كتاب واحد، فألصق به كل نقيصة حتى صار مثالا للظلم وعنوانا للغباء و الحماقة، الرجل هو: "بهاء الدين قراقوش" نائب الناصر صلاح الدين فى حكم القاهرة، أما الكتاب فهو "الفاشوش فى حكم قراقوش".
كان قراقوش رجلا عسكريا يجيد أعمال التشييد والبناء، ويكفيه فى هذا المجال بناءه لقلعة الجبل وسور مجرى العيون الذين كان يستخدم فى رفع المياه إلى القلعة، لكن تواجده فى لحظة تاريخية مفصلية تتحول فيها الدولة المصرية من حكم شيعى على يد الفاطميين إلى حكم سنى بقيادة صلاح الدين، جعله هدفا للسخرية ومحط اللعنات، خاصة أنه كان مسئولا عن تصفية مظاهر حكم الفاطميين من مصادرة للاموال والقصور وبيع العبيد، وجاء رجل يدعى "أسعد بن مماتى" - ربما كان منافسا لقراقوش على السلطة - نقل لنا صورة مظلمة عنه فى كتاب أسماه "الفاشوش فى حكم قراقوش" فكان سببا فى شهرة الاثنين، وصار ذلك الكتاب أشهر مؤلفات ابن مماتى برغم أن له مؤلفات أهم بكثير . و لم يكتف الناس بما ورد فى الكتاب بل أضافوا إليه قصصا ونوادر تنسب لجحا وغيره وألصقوها بقراقوش .
لا جدال أن قراقوش أشتهر بالصرامة، إلا أن هذا أمر طبيعى، فمن المؤكد أن قائدا عسكريا يحكم عاصمة دولة تحارب دولا متعددة و تخوض غمار حرب طاحنة ويغيب رأسها عنها لانشغاله بقيادة جيوشه لابد وأن تؤدى بنائبه إلى انتهاج الشدة وربما العنف فى التعامل حفاظا على الجبهة الداخلية – بلغتنا المعاصرة - وحماية لها، وربما لو كنا مكانه لاعلنا الاحكام العرفية أو اصدرنا - على الأقل - قانونا للطوارئ، وهذا بالطبع لابد وأن يخلف بعض الجروح من حوادث ظالمة لبعض العباد، لكن البلاد فى حالة حرب . وبرغم شدة قراقوش الا ان معظم المؤرخين ذكروه بالخير و لم يذكروا فى ترجمته وقائع كالتى جاءت فى الكتاب .
وفى اعتقادى أن المصريين استخدموا قراقوش هدفا بديلا عن صلاح الدين لسخريتهم، فمن الصعب السخرية من الحاكم الذى يقود جيشه فى حرب لها مسحة دينية، ليس هذا فقط بل يحقق انتصارات فى تلك الحرب و يستعيد اماكن لها قدسية و مكانة دينية عند الشعب، ولذا ففرصة تقبّل الجموع للسخرية منه تكاد ان تكون معدومة و ليس لها سبيل للانتشار، ولذا كانت ( الحيطة الواطية ) هى قراقوش .. ويظل السؤال: بعيدا عن الكتاب الذى نقل للمعاصرين صورة ظالمة، هل كانت صورة قراقوش فى عصره بذلك السوء ؟ ام ان معاصريه قدروا له منجزاته الهندسية و صموده طويلا فى حصار الفرنجة لعكا ؟ هل كانت قصة أسره فى حسبانهم و هم يسخرون منه ؟ أم أن كل السخرية كانت عابرة للعصور ولكنها لم تكن مؤثرة فى عصره ؟
وهكذا نجد أنفسنا أمام أكبر عملية تزييف للتاريخ أَستعملت فيها عصا المصريين "السخرية".