لا أظن أن هناك حاكمًا مصريًا تراوحت أسهمه بين الارتفاع الشاهق والهبوط الحاد، وبين التقدير والتحقير طوال فترة حكمه مثل الرئيس أنور السادات، فالرجل تبوأ عرش مصر وكل الظروف ضده، بداية من أنه أتى بعد زعيم دانت له القلوب فى الوطن العربى كله ونال احتراما وتقديرا حتى فى أقسى وأقصى لحظات ضعفه، نهاية بأنه تحمل وزر هزيمة وحمل عبء معركة فاصلة .
فى البداية سخر المصريون من ذلك الظل الهزيل القادم من خلف القامة الضخمة، وساعد على السخرية أنه بدأ الحكم فى مناخ معادلة، وطالته النكات قبل أن يبدأ، لكنه بعد شهور قليلة نجح فى التخلص من كل المناوئين محاولا تسويق صورة مختلفة له عن صورة الزعيم، صورة رجل الديمقراطية الذى يحفظ للناس كرامتهم ويجعلهم آمنين على بيوتهم وأموالهم وأسرارهم وأرواحهم، وساعدته جوقة اتخذت من سب الزعيم الراحل أسلوبا لرفع قيمة الحاكم الجديد، لكن سرعان ما انفجر الوضع وكاد أن يخرج عن السيطرة بسبب عدم تحقيقه لوعده المتهور بحسم المعركة فى نفس العام متعللا بحجج لا تنطلى على الأطفال، فالجموع لم تقتنع بأن الضباب – حتى لو كان معنويا – قد أجل الحسم .
صار التوتر سمة العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وطغى الغضب على السخرية، وانفجر عدة مرات بسبب الإحساس بأنه لن يحارب، وعندما أتت الحرب رفعته الجماهير إلى عنان السماء فلقد حقق لها الأخذ بالثأر، وسرعان ما أصابتهم خيبة الأمل بدءا من الاستقبال الحافل لنيكسون وانتهاء بزيارة القدس، وبدءا من الوعد بالرخاء المقبل انتهاء برفع الأسعار، وتعددت وقائع التظاهر فى عصره وازداد عنفها: فبعد الحرب قامت اضطرابات عمالية فى 75 وانتفاضة شعبية فى 77 ثم مظاهرات متعددة من 79 وحتى اغتياله.
وبرغم قصر ذلك العصر إلا أنه شهد تناقضا ضخما، ففيه اتكأ المصريون بعنف على عصاهم واستخدموها بقوة ضد الحاكم، كما شهد ذلك العصر أيضا أكبر عملية تزييف لعصا المصريين.
فأما الاستخدام العنيف والمفرط فقد تجلت أولى مظاهره فى حجم النكات التى أطلقت على السادات، التى تفوق فيها على أى حاكم آخر معاصر حتى أنها طالت زوجته فى قسوة غير مسبوقة، أما ثانى المظاهر فكانت ظهور وسيلة جديدة للتعبير ومظهرا حديثا لعصا المصريين، هى مجلات أو جرائد الحائط التى انتشرت فى الجامعات وتعددت وتنوعت وقدمت وجبة من السخرية تستحق دراسات كثيرة ومتعمقة "للأسف اختفت تلك الجرائد تحت أقدام الأمن قبل أن توثق وتسجل".
كانت تلك المجلات طريقا متاحا ومساحة مفتوحة للتعبير عن جيل جديد، جيل تمرد على صورة "الأب المسيطر" - بدءا من عام 1968 ليس فى مصر فحسب بل فى العالم أجمع - فبعد أعوام طويلة من الحياة تحت جناح الأب القوى وفى حمايته فى مقابل تسليم أمرنا إليه، تمرد ذلك الجيل على كل الآباء محاولا كسر كل العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية، وجاءت مسرحية "مدرسة المشاغبين" متوافقة مع اللحظة بالصدفة فنجحت نجاحا ساحقا ونقلت ممثليها إلى مصاف النجوم، نجوم تلك المرحلة التى يصرخ فيها كل الأبناء (هييييه ..أبويا اتحرق).
وساهم ذلك العصر أيضا فى ظهور صوت للشعب يشبه صوت الأدباتى (ذلك الساخر الذى كان يدور فى الأسواق مغنيا معبرا عما يحسه الناس) صوت سمعناه من عبد الله النديم ومن بيرم التونسى، لكن الصوت هذه المرة كان أعلى وأحد وأعنف، إنه صوت أحمد فؤاد نجم .
كانت لنجم شهرة منذ عصر عبد الناصر، ولفترة قصيرة احتفت به الأجهزة الحكومية وقدم قصائده فى الأذاعة الرسمية، وبرغم تعدد أصوات شعراء العامية المصرية واجتماع نوابغ منهم فى عصر واحد (جاهين، الأبنودى، حجاب، قاعود تحت راية الأب حداد) إلا أن نجم كان أكثرهم سخرية وسلاطة وتعبيرا عن موقف الشارع من الحاكم، وسرعان ما تحول صوته ليصبح سوطا يمثل عصا المصريين، و ساهم فى انتشار الصوت كم السخرية فى أشعاره وأن تلك الاشعارمغناة، فالغناء كان الباب السحرى لسهولة ترديدها وتسريبها إلى كل الطبقات حتى ترسخت فى التربة المصرية .
كانت تلك أبرز تجليات عصا المصريين فى عصر حرق الأب، ولكن على مستوى آخر كانت هناك عملية التزييف قائمة على قدم وساق.