يقول الشاعر العربى القديم زهير ابن أبى سلمى "سئمت تكاليف الحياة/ ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم"،لم يكن يماثل وجهة نظر الكاتب الأمريكى الكبير هنرى ميلر .
وتمر اليوم ذكرى ميلاد الكاتب هنرى ميلر الذى ولد فى (26 ديسمبر 1891- ورحل فى 7يوليو 1980)، وتم حرق جثته وتقسيم رماده بين ابنه تونى وابنته فال، وأكثر أعماله تميزاً هى "مدار السرطان، مدار الجدى، الربيع الأسود."
وفى سنة 1972 كتب هنرى ميلر مقالة طويلة بعنوان «ما الذى يحدث حين نبلغ الثمانين» وذلك بعد أشهر قليلة من بلوغه الثمانين، ونعتمد هنا على ترجمته سهام العريشى والتى نشرتها فى جريدة الحياة، وفيها "إن كنت قد بلغت الثمانين وأنت لست مشلولاً أو معتلاً، إن كنت لا تزال بصحة جيدة، وتستمتع برياضة المشى وبوجبتك، إن كنت تستطيع النوم من دون تناول حبوب منومة، إن كانت الطيور والأزهار والبحر والجبال ما زالت تُلهمك كما كانت، فأنت شخص محظوظ ومن الأفضل لك أن تسجد شاكراً لطف الرب ورعايته الدائمة. إن كنت شاباً بحساب السنين، وخَرِباً فى عمق روحك، إن كنت على وشك أن تصبح آلة، فلعل أفضل شىء تفعله – بعد أن تأخذ نفساً عميقاً، بالطبع - هو أن تقول لمديرك فى العمل: (اللعنة يا صديقى أنت لا تملكنى!)... إن كنت لا تزال قادراً على الحب، وقادراً على مسامحة والديك اللذين ارتكبا جريمة إحضارك إلى هذا العالم، إن كنت قنوعاً بمكانك، وباستقبال أيامك كيفما جاء بها القدر، إن كنت قادراً على الغفران والنسيان، إن استطعت أن تكبر من دون أن تصبح رجلاً فجاً، عابساً، متشائماً يشعر بالمرارة، فقد قطعت نصف الطريق!..
إن كانت لديك وظيفة ناجحة، ربما كتلك التى كانت لدى فمن المرجّح أن السنين المقبلة لن تكون أجمل سنين حياتك، إلا إن كنت قد تعلّمت أن تشرب من ماء البحر. النجاح من وجهة نظر دنيوية، هو وباء للكاتب الذى ما زال يملك شيئاً ليقوله. فى هذا الوقت من العمر حين يكون من المفترض أن يستمتع بوقت فراغ قليل، سيجد نفسه منشغلاً أكثر من أى وقت مضى. يصبح الآن ضحية للمعجبين والمهنئين وكل هؤلاء الذين يسعون لاستغلال اسمه. وسيجد أنه يعيش نوعاً مختلفاً من الصراعات التى عليه وحده أن يدفع ثمنها. مشكلته الآن هى فى كيفية البقاء حراً، وفى ممارسة الأشياء كما يريد هو لا كما يريد الآخرون.
شىء واحد أراه يتضح أمامى يوماً بعد يوم: شخصيات الناس الأصلية لا تتغير مع الأيام. النجاح يطوّر شخصياتهم، نعم، لكنه يُبرِز أخطاءهم وعيوبهم أيضاً. التلاميذ الأذكياء فى المدرسة لا يبدون بالذكاء نفسه الذى كانوا عليه حين يخرجون لمواجهة العالم. الفتيان الذين كنت تزدريهم وتمقتهم فى المدرسة، ستكرههم أكثر حين يصبحون مموّلين ورجال دولة وضباط بخمسة نجوم. الحياة تعلّمنا القليل من الدروس، لكنها لا تعلمنا كيف نكبر.
ستشاهد أطفالك أو أحفادك وهم يرتكبون الأخطاء السخيفة نفسها، الأخطاء التى تدمى القلب، تلك التى ارتكبتها حين كنت فى مثل عمرهم. ولن يكون بوسعك أن تقول شيئاً أو أن تفعل شيئاً لمنعها من الحدوث. ومن خلال مشاهدتهم فقط، سيكون بإمكانك أن تفهم تدريجياً الحماقات التى كنت عليها يوماً ما، والتى ما زلت تمارسها - ربما - إلى الآن.
فى الثمانين أعتقد أننى أصبحت شخصاً مرحاً أكثر مما كنت فى العشرين أو الثلاثين. بل ولا أرغب فى أن أعود إلى ما قبل العشرين. قد يكون الشباب بهيّاً، لكنه مؤلم أيضاً.
كنتُ ملعوناً أو محظوظاً بفترة مراهقة طويلة جداً، ووصلت إلى ما يشبه النضج فى مرحلة ما من الثلاثين، وفى الأربعين فقط بدأت أشعر حقاً أننى أصبحت شاباً. وقتها فقط كنت مستعداً لذلك. كان بيكاسو يقول: «فى الستين يشعر المرء بالشباب، حين يكون الوقت قد فات جداً». فى هذا العمر، فقدتُ الكثير من أوهامى لكننى لحسن الحظ لم أفقد حماستى ولا استمتاعى بالحياة، ولا فضولى الجامح.
لعله الفضول – لمعرفة أى شىء وكل شىء - هو ما صنع منى كاتباً، الفضول الذى لم يتخلّ عنى أبداً، إلى جانب هذه الخصلة أدين بالفضل لخصلة أخرى أضعها فوق كل اعتبار، وهى حاسة الدهشة. لا تهمنى قيود حياتى كلها، لكننى لا أستطيع أن أتخيل أن تتركنى الحياة فارغاً من الدهشة، أسمّيها إلى حد ما: دينى. أنا لا أتساءل أبداً عن هذا الوجود الذى نسبح فيه، كيف جاء وخُلق. أنا أستمتع به وأقدّره فحسب. لعلّ مصدر الراحة الأكبر فى الشيخوخة هو قدرتنا المتزايدة على عدم أخذ الأشياء بجدية مبالغة، إن أحد أكبر الاختلافات بين الحكيم الحقيقى والواعظ هو: المرح، حين يضحك الحكيم، يضحك من قلبه، وحين يضحك الواعظ – إن حدث ذلك - فهى ضحكة وجه لا أكثر. كلما تقدم بى العمر، أفكارى المثالية – التى طالما أنكرتها - تتغير. أفكارى المثالية فى أن أكون متحرراً من كل المثاليات، متحرراً من المبادئ، متحرراً من المذاهب والآيديولوجيات. أريد أن أمضى فى محيط الحياة كما تمضى السمكة فى البحر.
لم أعد أبذل جهدى لأقنع الناس بوجهة نظرى عن الأشياء، ولا لمعالجتها. لم أعد أيضاً أشعر بالفوقية لأنهم يفتقدون الذكاء، كما كان يبدو لي.
يمكننا أن نحارب الشر، لكننا أمام الغباء لا نستطيع فعل شيء. لقد تقبّلت الحقيقة كما هى ومهما كانت قاسية: البشر يميلون إلى التصرف بطريقة تجعل الحيوانات تشعر بالخجل. المثير للسخرية وللألم معاً هو أننا غالباً نتصرّف منطلقين - بشكل منحط - مما نسميه الدوافع العليا. الحيوان لا يبرر قتل ضحيته، أما الحيوان البشرى فيذكر اسم الرب حين يذبح أخاه الإنسان. ينسى أن الرب لا يقف على جانبه، بل يقف إلى جانبه.
لطالما كان شعاري: «امرح دائمًا وتألق». ولعل هذا هو السبب الذى لا يجعلنى أملّ من تكرار مقولة رابليه: «بقدر آلامك، أمنحك الفرح». حين أنظر إلى الخلف لأرى حياتى حياتى المليئة باللحظات التعيسة، أراها ضرباً من السخرية أكثر من كونها مأساة. إحدى هذه المشاهد الساخرة هو أنك حين تضحك بقوة تشعر أن قلبك يؤلمك. أية مأساة ساخرة يمكن أن تكون هذه؟ الشخص الذى يأخذ حياته بجدية أكبر مما يلزم هو شخص منته لا محالة.
الخطأ ليس فى الحياة بحد ذاتها، فالحياة مجرد محيط نسبح فيه، وعلينا أن نتكيّف معه أو نغرق إلى الأسفل. لكن السؤال هو: هل بإمكاننا كبشر ألا نلوث مياه الحياة، وألا نحطّم الروح التى تسكن داخلنا؟
إن أصعب ما يمكن أن يواجهه المبدع هو أن يتوقف عن محاولة تغيير العالم إلى ما يحب، وأن يتقبّل الناس من حوله كما هم تماماً، أجيدين كانوا أم سيئين أم لا مبالين بما يحدث من حولهم فى العالم".