صدر عن معهد الشارقة للتراث كتاب "سير التراث العربى" من إعداد وتحرير دكتورة منى بو نعامة، وشارك فى إعداده كل من دكتور عادل الكسادى والدكتور محمد حسن عبد الحافظ وسعاد الكلبانى ذكرت الدكتورة منى بو نعامة فى مقدمتها أن السير جمع، ومفردها سيرة، والسيرة هى قصة الحياة، أما السير العربية، فهى تراجم حياة أبطال العرب وملوكهم وشعرائهم، و الأصل فى مصطلح "سيرة" هو السيرة النبوية، وهى الترجمة المأثورة للنبى محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أصبحت تدل على ترجمة الحياة بصفة عامة.
وتذكر منى بو نعامة، أن الوجدان الشعبى العربى اجتذب بعض الشخصيات التى تعتبرها مثلاً وقدوة ورمزاً يحقق القيم الدينية والقومية والاجتماعية، وهذا ما يفسر فى الحقيقة، سر انتشار عدد من السير الشعبية التى قامت فى أساسها على شخصية بطل أو مجموعة من أبطال مثل: سيرة سيف بن يزن، والزير سالم، وعنتره بن شداد، والأميرة ذات الهمة، والظاهر بيبرس، وقد تلقاها الناس بالقبول، ونسجوا على منوالها.
أما الدكتور محمد حسن عبد الحافظ فيقدم فى هذا الكتاب دراسة مختصرة تحت عنوان "السير الشعبية العربية.. المصطلح وحدود الجنس الأدبي" وهو يرى السير _لغة_ السنة والهيئة والطريقة، وقيل: سار بهم سيرةً حسنةً. ويبدو أن الدلالة الأخيرة (أى الطريقة) هى ما رمى إلية الرواة و المؤرخون بكلمة "سيرة"، فقد فهم العرب السيرة بوصفها مجموعة من الأحداث، التى مرت بصاحب السيرة، وطريقته فى معالجتها، إلا أنهم ما لبثوا أن اتخذوا "السيرة" عنواناً للكتاب الذى يسجل ما مر من الأحداث بإنسان معين، منذ ما قبل ولادته، فولادته، ثم مراحل حياته، فموته، وبعض الأحداث التى جرت بعد موته، ولها علاقة بالأمور التى كرس لها حياته. وتمثل " السيرة النبوية" النموذج المرجعى الأول الذى احتذى به الإبداع السيرى الشعبى العربى ويكشف التحليل النصى والسيميائى للخطاب السردى عن اشتمال "السيرة النبوية" على الخصائص نفسها التى اقتدت بها " السيرة الشعبية". وقد انتخبت الذهنية الشعبية العربية شخصيات تاريخية، بدءاً من عصر ما قبل الإسلام، مثل: "الملك سيف بن ذى يزن" (50 قبل الهجرة_ 574ميلادية)، "المهلهل بن ربيعة" (نحو 100 قبل الهجرة_ 525ميلادية)، و "عنترة بن شداد" (نحو 22 قبل الهجرة_ 1277ميلادية)، ثم شخصيات أخرى من عصور ما بعد الإسلام، ك "الظاهر بيبرس" و "الأميرة ذات الهمة" و " حمزة العرب" و " طومان باي"، وغيرهم، لتُروى وتُكتب لها سير شعبية كاملة ومطولة، صور فيها ما عصف بها من الأحداث، وكيف تصدوا لها، وانتصروا عليها، وإن اكتملت هذه السير، و أخذت شكلها النهائى ابتداءً من العصر المملوكى على وجه الخصوص.
تنبئ كلمة سيرة، إذن، بتأثر الرواة الشعبيين، أو على الأقل المؤلفين الأوائل، بـ"أدب السيرة" فى الثقافة العربية الإسلامية، خاصة أن "السيرة الشعبية" تحمل. عادة. اسم بطلها، وتروى قصة حياته من الولادة إلى الوفاة. وهو أحياناً شخصية تاريخية وردت أخبارها فى كتب التاريخ والسيرة والأدب. ويتجلى تأثر "السيرة الشعبية" ب" أدب السيرة" فى عناصر أخرى، من أبرزها: ابتداؤها ببيان النسب، وذكر النبوءات المبشرة بميلاد البطل وتكونه، وقيام المسار الحدثى على صراع البطل من أجل تحقيق أهدافه، أو ما يُنتظر منه. ولكن ذلك لا يعنى أن "السيرة الشعبية" قد أفادت من نصوص "أدب السيرة" وحدها، فأخبار الجاهية وأيامها وأخبار الفتوح وقصص فرسانها وفارساتها، قد مثلت روافد مهمة استقى منها الراوى الشعبى عناصر لتشكيل الأجواء الملحمية التى صورها فى السير الشعبية. وقد استند أيضاً إلى تراث شفهى ومكتوب من الخرافات والحكايات الشعبية المكتنزة بالجن والسحر، وكذلك قصص الأنبياء والأولياء والصالحين وكراماتهم.
منذ النصف الأول من القرن العشرين، أطلق مصطلح "سيرة شعبية" (geste)، على مجموعة من الخطابات السردية الطويلة التى تولدت فى مجال الإبداع الشفهى وتواتر على روايتها رواه وشعراء مغنون فى ساحات المدن العربية الكبرى وفى المجالس، والأرياف، قبل دخول المطبعة إلى الحواضر الحديثة وتحكى السيرة الشعبية سيرة حياة بطل، أو جماعة قومية، أو مجموعة قبلية، وتعكس من خلاله/خلالها أحلام وتصورات المجتمع الذى يمثله/يمثلها، كما تعكس أيضاً رؤية الضمير الجمعى لنفسه وللعالم وللكون، عبر تلك النصوص، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. وهذا التأريخ. فى حقيقته. مزيج من الوقائع التاريخية والمبالغات الميثولوجية، حتى قيل: إن السير الشعبية هى التاريخ يُنشد على أبواب الأسطورة.
تعددت أنواع السيرة الشعبية العربية، فمنها القبلى والقومى و الإسلامى على سبيل المثال، تعد "سيرة بنى هلال" أو "السيرة الهلالية" سيرة قبلية فى شكلها الأولى وكما أنها سيرة جماعة؛ تحكى عن قبيلة بنى هلال وحلفهم مع قبائل العرب فى نجد والحجاز، ولكن بطل من أبطال السيرة الهلالية فصل أو أكثر خاص به، وإن كان "أبو زيد الهلالي" هو المسيطر على كل حلقاتها.
ولكل سيرة من هذه السير الشعبية مؤدون ورواة متخصصون (تتعدد أسماؤهم المحلية وفقاً لأماكن وجودهم) ينفرد كل فريق منهم بإنشاد سيرة بعينها، يتوارث روايتها جيلاً فجيلاً، وذلك منذ أن تكاملت فى منتصف العصر المملوكى و إلى وقت قريب فى بدايات القرن العشرين، باستثناء السيرة الهلالية التى لا تزال حية تروى شفهياً حتى اليوم فى معظم البيئات العربية. وتنتمى السيرة الشعبية إلى جنس الأدب الشعبي؛ لكونها مجهولة المؤلف، وخاضعة عند روايتها وتداولها المستمر عبر القرون للتجدد والإضافة. وقد ترتب على ذلك أن نسخ السيرة الشعبية الواحدة تختلف فى ما بينها أختلافاً كبيراً، على نحو ما يظهر فى السيرة الهلالية، كما أن نص السيرة الشعبية يمكن أن يطول بشكل لافت، فيضم مخطوطها الآف الصفحات، شأن" سيرة الأميرة ذات الهمة والبطال وولدها عبد الوهاب" التى تقع فى 26 ألف صفحة مخطوطة.
والكتاب الذى يروى أيضاً عدد من السير بصورة مختصرة مثل: الأميرة ذات الهمة، وعنترة بن شداد، والزير سالم، يصلح أن يكون كتاباً مقرراً على طلبة المدارس فى الوطن العربى لأنه كتب بأسلوب سلس به إثارة تجذب الأجيال الجديدة لهذا التراث الذى لا يعرفون عنه الكثير.