كن حذرًا ولا تقُل لفتاة كلمات عابرة لا تُلقِ لها بالًا وتمضِ؛ فإنك لا تعرف ماذا تفعل كلمة أو جملة من سبع كلمات في نفس فتاة عطشى لكلمات الحب، إياك أن تقول لفتاة تحادثها عبر الشات في أيٍّ من برامج التواصل الاجتماعي: «عرفتكِ الآن فقط، كم أنتِ فتاة مدهشة!».
فإن هذه الكلمات رغم بساطتها، وربما تكون من باب المجاملة؛ فإنها قد تصادف فتاة مثل ندى حلمي، التي مضى بها العمر شاعرة بالغبن وعدم الاهتمام، حياة خالية من مغامرات الحياة العادية وبالضرورة هي حياة جافة خالية من المغامرات العاطفية؛ لذا كن حذرًا فإن جملة مثل هذه الجملة أوردت ندى حلمي المهالك؛ فراحت تبحث عن صاحبها؛ لأنه استطاع أن يمس وترًا كاد ينقطع وقلبًا كاد يجف.
لم تكن هذه الجملة سببًا في الحالة الدرامية التي عاشتها ندى طوال أحداث الرواية، بل كانت ركنًا ركينًا في بناء الرواية، فلولاها ما عرفنا الحالة النفسية المتردية لندى ولا خبرنا طرفًا من حكايتها التي حزنا لها. رحلة بحث ومتابعة لشخص استطاع أن يلعب على وتر غاية في الحساسية مع فتاة أشد حساسية وأشد شفافية، فتاة تعيش على سجيتها تصدق ما يقال لها؛ لأنها لا تعرف معنى الكذب.
رحلة طويلة من اللعب الفني الذي مارسته الكاتبة سارة درويش بفنية عالية على صفحات الرواية التي اقتربت من ثمانين صفحة بعد المئة، قدرة سردية تتسم بالبساطة التي تقود إلى السلاسة؛ بحيث تستطيع التهام الرواية في جلسة طويلة بعض الشيء، ولكنها في النهاية جلسة واحدة، ستنتقل من فصل إلى آخر وأنت تبحث مع ندى عن ذلك الذي راح يلعب معها أو يلعب بها، ستحزن لضعفها وستسعد لاقترابها من حل اللغز، حتى نصل مع ندى إلى نهاية رحلتها أو ربما لبداية رحلة جديدة تكون بداية لحياة جديدة قد تعلمت من سابقتها ألا تبدو ضعيفة هشة تدغدغ مشاعرها أبسط الكلمات.
تعجبني الكاتبة التي تعالج في كتابتها قضايا عصرية شائكة، والقضية هنا ليست من القضايا التي تمر مرور الكرام؛ لأن الكاتبة اخترقت منطقة تكاد تكون من المناطق الشائكة المسكوت عنها، قضية السوشيال ميديا أو وسائل التواصل الاجتماعي وما يحدث فيها من عمليات نصب وكذب وخداع، وليس أشد من الكذب والخداع والنصب على المشاعر الإنسانية، قضية ربما نكون جميعًا قد تعرضنا لها، رجالًا ونساءً؛ فليس الأمر مقتصرًا هنا على خداع رجل لامرأة، ولكن قد يمتد أيضًا لخداع امرأة لرجل بالكيفية نفسها.
اختارت الكاتبة الراوي مشاركًا متكلمًا بضمير الأنا، وقد وُفِّقت أيما توفيق في ذلك، لقد كانت ندى متحفزة بما يكفى لأن تتكلم عن نفسها بعد سنين طويلة من الصمت والانطواء والانزواء، لقد كان شعورها الدائم بأنها فتاة عادية لا ينتبه لها أحد سببًا رئيسًا لأن تجعل منها الكاتبة راوية لقصتها؛ فليس أجدى ولا أنفع ولا أشد أثرًا من ضحية تحكي حكايتها، وكأن بهذه البطلة وقد أخذت فرصتها للحديث عن نفسها فلم تفلتها.
استطاعت الكاتبة بمهارة فائقة أن تجمعنا وتجعلنا جلوسًا في حضرة الضحية، حيلة سردية ذكية لم نكن لنقبلها في رواية أخرى متعددة الشخصيات، فالقارئ في العادة يمل سماع الصوت الواحد متكلمًا عن نفسه وعن الآخرين في وقت واحد، ولكن في حالة ندى جلسنا نستمع في خشوع ومتألمين معها ولها.
ربما سيصف البعض هذا العمل بأنه كتابة نسوية؛ الكاتبة امرأة، والبطلة امرأة، والقضية تمس المرأة بشكل مباشر. لكني قد أختلف مع رأي كهذا؛ لأن الكاتبة لم تُثِر القضية بوصفها قضية نسوية، ولكن بوصفها قضية اجتماعية شديدة الخطورة تخص الرجال والنساء على حد سواء.
ربما كان الخط الفاصل بين الوعظ والفن دقيقًا للغاية، فرُب قضية مثل قضية هذه الرواية وفحواها العلاقات الشائعة بين الرجال والنساء وما يترتب عليها من آثار مدمرة على الأشخاص والبيوت، أقول ربما كانت قضية كهذه تصلح لأن تكون وعظًا مباشرًا على منبر أو في برنامج إذاعي أو تليفزيوني، لكن الكاتبة كانت منتهية لذلك جيدًا، فإن النتيجة التي وصلتنا عن طريق الفن كانت أشد تأثيرًا في نفس القارئ من خطبة يسمعها من فوق منبر.
الكاتبة نأت بنفسها تمامًا عن الوعظ المباشر وطرحت القضية عبر حبكة فنية رائعة، رجل يدغدغ مشاعر امرأة متلهفة لكلمة أو لفتة أو إشارة أو هدية أو كلمة شكر تشعر من خلالها أنها مرئية ومحط أنظار الآخرين، بالمناسبة قد يشعر الرجل الشعور نفسه ويتلهف اللهفة نفسها لكلمة تُشعِره أنه محط أنظار الآخرين، تتلقف الكلمة وتمضي باحثةً عنه منتظرة ظهوره من خلال رسائله التي تعيد لنفسها التوازن، وعندما يختل توازُنها تبحث عن معالج نفسي، وتكشف له عن تفاصيل علاقتها بذلك الذي أحبته (عمر هادي)، ثم تكتشف في النهاية أن صدمة جديدة بانتظارها، في حبكة درامية شديدة البراعة، كانت الكاتبة تنتقل بنا من مرحلة إلى أخرى بخفة ورشاقة ولهاث للوصول إلى حقيقة ذلك الذي خطف قلب ندى.
ربما كان من أسباب جمال الرواية قدرة الكاتبة على الاستيطان النفسي للبطلة، والوصول إلى أغوار عميقة من نفس مضطربة قلقة؛ لأنها لم تجد مَن يشعر بها، أو يمنحها الحب.
قلت إن النتيجة التي قد نصل إليها بعد معايشة مأساة البطلة أن تُحذِّر كل النساء من معسول الكلام الذي يلقيه الرجال كيفما اتُّفِق لا يعلمون ما تصنع كلمة واحدة في نفس امرأة، وفي المقابل ربما كانت الرسالة غير المباشرة التي تلقيتها كوني رجلًا ألا أندفع مطلقًا في إرسال رسائل تحمل وجوهًا عدة، أو كلمات توحي بشيء لا أقصده، أو استدراج متلهفة لكلمات الحب، أو نسج شباك الغرام استعراضًا لفحولة كلامية، وددت لو كتبت الكاتبة اهداءً آخر في صدر روايتها موجهًا للرجل تقول فيه: «إلى كل رجل يفكر في خداع امرأة بمعسول الكلام، انتبِه فقد تصبح مجرمًا من حيث لا تعلم».
لأن الفن رسالة؛ فإنني ممن يبحثون عن الرسالة داخل العمل، ولست مكابرًا حتى أُنكِر أنني تعلمت أشياء مهمة من هذه الرواية. تعلمت أن الكلمة التي نقولها أحيانًا على سبيل المزاح والمراوغة قد تودي بحياة امرأة شديدة النقاء والبساطة.
وتعلمت أن المرأة لا تحتاج من الرجل إلا كلمات صادقة تُشعِرها بوجودها. تعلمت أن المرأة في حال ضعفها قد تغفر وتعفو، ولكنها أبدًا لا تنسى.
تعلمت أن المرأة أحيانًا كثيرة تُعامِل الرجل بوصفه أكبر من الغيرة أو أكبر من أن يحتاج إلى كلمات الحب مثلها تمامًا.
تعلمت أن التوقع المُبالَغ فيه قد يكون سببًا في صدمة الطرف الآخر إذا لم يجده، لن أنسى مشهد الهدية التي أحضرتها ندى لزميلها التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الارتباط به، كانت تتوقع فرحة وتقديرًا وامتنانًا كبيرًا، لكنه طعنها بسؤاله عن ثمن الهدية، أيُّ لجاجة هذه وأي تنطُّع؟!
جاءت اللغة سلسلة عذبة فصيحة في الرواية، باستثناء بضع كلمات في إطار حوار دارج بلهجة عامية، سلاسة اللغة كانت من أكثر عوامل وصول المعنى والاندماج مع معاناة البطلة.
استطاعت الكاتبة الاحتفاظ بالمفاجأة حتى الأسطر الأخيرة في دلالة واضحة على مفهوم اللعب الذي هو جوهر الفن، فإن كل ما تعلمناه لم يكن أبدًا مباشرًا، بل جاء في إطار لعبة فنية رائعة احتفظت لنا فيها الكاتبة بالمتعة كما استبقت لأنفسنا فيها الأثر النفسي والدرس الحياتي.
باستثناء بعض الهنات اللغوية التي في غالبها بسبب لوحة المفاتيح، استمتعنا بلغة خالية من الأخطاء النحوية والصرفية.
لم يتبقَّ لي في هذه المداخلة إلا الإشادة بجمال العنوان (باب أخضر للهاوية)، وستعلم سر جمال العنوان عندما تعرف أن الباب الأخضر ليس إلا الموقع الأخضر الإلكتروني الذي تلقت منه البطلة رسائلها الملغزة، وأن الهاوية في الاستماع لصوت الجوع العاطفي الذي أوردها المهالك.