التقيتها وهى تمشى بخطواتِ متثاقلة وكأن على كاهلها جبال من الهموم المتراكمة كما تحمل تجاعيد وجهها آثار السنين، فقد تقدم بها العمر وطغى عليها جور الزمان فأصبحت تتسول الحياة الكريمة من أبنائها بعدما فرقتهم الحياة وأصبح لكل واحد منهم ما يشغله من زوجة وولد وتركوا تلك (العجوز) تستجدى من يتدخل ليجلب عطف أولادها عليها بعدما (ترملت) عليهم صغاراً وكافحت فى دوامات الدنيا حتى تتم رسالتها بتربيتهم على أكمل وجه حسب قولها.
قلت لها (لا تغضبى عليهم يا خالة واتركى لى الأمر حتى أعالجه بشكل أو بآخر فقط ساعدينى بدعائك لهم بالهداية وسوف أعمل أنا ما بوسعى لأعيدهم إلى رشدهم) وتجاذبت معها أطراف الحديث عن ذكرياتها فى الماضى وأحوال الناس حتى أنسيها بعض من همومها التى حملتها على اللجوء لى فأحسست أنها بدأت تتقبل كلماتى البسيطة، فقلت لها: (لى طلب عندك يا خالة) قالت: (ما تشاء يا ولدى) قلت لها أن تدعو لى قالت ( اللهم اجبر خاطره كما جبر بخاطرى).
وقفت لدقائق فى مكانى بعد انصراف (العجوز) وكأن صدى صوتها فى دعائها يتردد فى أذنى، وكأنى استمع لهذا الدعاء لأول مرة! ولا أنكر عليك عزيزى القارئ أننى لم أشعر بقطرات الدمع التى تتساقط منى إلا بعد لحظات فآثرت أن اجتنب مقابلة الناس ساعتها حتى أكون قد استطعت أن أسيطر على مشاعرى تجاه هذا الموقف الذى تعرضت له تلك (العجوز) من أولادها وختمته بدعائها السابق.
وبدأت أبحث فى نفسى وأتساءل عن (جبر الخواطر) وهل جبر خاطر الناس أمر مهم فى حياتنا أم هو أمر ثانوى؟ وهل جبر الخاطر المقصود منه قبول رجاء الشخص حسب القول المأثور (لا تقطعن رجاء من ارتجاك)؟ أم أن جبر الخاطر أنك لا ترد راجيك أو كما نقولها بالعامية لا ترد (عشم) الناس فيك بأى شكل كان هذا العشم أو هذا الرجاء طالما لا يكون فيه مخالفة لأوامر الله أو نواهيه.
فوجدت أن جبر الخواطر يحتاج لأهل المروءة والهمة العالية، يحتاج لكرماء الناس ليس فى السخاء المادى فقط بل فى كرماء النفوس الذين تواضعت أنفسهم فتركوا الكبر للخاوية عقولهم، والذين جُبلوا على السخاء غير منتظرين لوصلات المدح والإطراء لأنهم جعلوا ما يقومون به خالصاً لوجه الله تعالى راجين أن يثيبهم من فضله وأن يجعلهم فى زمرة عباده الذين اختصهم بقضاء حوائج الناس حيث المكانة العالية عند ملك الملوك.
ثم إنى وجدت أن جبر الخواطر من أهم ثوابت المجتمع فبه يتماسك، وبه تتعاظم ثوابت الاحترام بين الناس بعد قبول جاههم وجبر خواطرهم فتقدير الكبير جبر خاطر، وصلة الرحم جبر خاطر، وإكرام الضيف جبر خاطر، وقبول العذر جبر خاطر، والتسامى عن الهفوات والزلات جبر خاطر، وعدم رد المحتاج جبر خاطر، والتعامل بتواضع وبث الألفة بين الناس جبر خاطر، فإن عودت نفسك على جبر خواطر الناس فكن متأكداً أن الله لن يخذلك، ولكنه سوف يجبر خاطرك فى وقت أنت تحتاج كرمه ووصله وتجاوزه عن كل زلاتك وهفواتك لأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، وتذكر دائماً القول المأثور (من سار بين الناس جابراً للخواطر أدركه الله فى جوف المخاطر) دمتم بخير.