من 3 سنين، بالمقر الجديد للجامعة الأمريكية بالقاهرة قابلت شابا مصريا نال درجة الماجستير فى ريادة الأعمال من جامعة تورنتو بكندا، وتبادلت معه الحوار لأكثر من ربع ساعة خلال استراحة القهوة بمؤتمر مركز البحوث الاجتماعية بالجامعة.
بعد عناء طويل لتحضير أوراق الالتحاق بجامعة تورنتو وصعوبة الدراسة بالمعايير الأكاديمية الكندية، عاد هذا الشاب إلى الوطن بحثاً عن فرصة عمل!! مما أثار دهشتى بشدة وتساؤلى عن عودته من بلد غنى رغم وجود فرص تغنيه عن العودة إلى مصر، آخذاً بالاعتبار طبعاً الظروف الاقتصادية هنا.
ولا تعد تلك الواقعة الأولى، ففى فندق الكونراد قابلت أخراً نال ماجستير فى الاقتصاد من جامعة غرب لندن فى بريطانيا وعاد أيضاً لمصر بحثاً عن فرصة عمل، آن الأوان للبحث والتقصى
بلاد برة .. إيه الحكاية !!
هذان الموقفان يذكرانى بتجربتى الشخصية منذ أربعة أعوام، فبعد الالتحاق بجامعة برلين بألمانيا لنيل ماجستير السياسات الدولية، صدر قرار من رئاسة مجلس الوزراء بتعيين حاملى الماجستير والدكتوراه فى الجهاز الإدارى للدولة، وهو الحلم الذى يداعب عقول كافة الشباب نظراً للمزايا العظيمة التى تقبع خلفه مثل الأمان الوظيفى والاستقرار، وهو ما أقنعنى حينها بالعودة فوراً لأرض الوطن وتجنب إهدار الفرصة، لأن قرار مجلس الوزراء اقتصر بتوظيف حاملى تلك الدرجات من الجامعات المصرية الحكومية واستبعد أى جامعة غير حكومية أو غير مصرية.
وخلال إقامتى فى ألمانيا لفترة ليست بقصيرة، لا أنكر مدى التطور التقنى والمعرفى للأكاديمية الأوروبية مقارنة طبعاً بنظيرتها المصرية، ورغم تحفظاتى القليلة عليها، إلا أن عدداً ليس بقليل من المصريين والعرب الذين نالوا درجات أكاديمية بالجامعات الأوروبية اضطروا للعودة والبحث عن فرص عمل فى بلادهم مما يدفعنى للتعجب أمام هيبة وزهو تلك الشهادات التى نالوها بالخارج بعد أموال باهظة دُفِعت!
لفهم أعمق، لابد من الغوص فيما يحدث بالداخل الغربي، ففى ألمانيا، تم ضخ كمية أموال هائلة تكبدها الاقتصاد الألمانى لمساعدة اليونان خلال فترة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى مرت بها منذ عام 2010، وكذا تكلفة سياسة الباب المفتوح التى اتبعتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والتى سمحت لأكثر من مليون لاجئ سورى دخول البلاد منذ اندلاع الحرب هناك.
مَن عاش بألمانيا قبل 2010 سيشعر بحجم الاختلاف فى أسعار السلعة الغذائية وقيمة الإيجار والمواصلات وغيرها من تكاليف المعيشة اليوم، فالشباب الألمان أنفسهم باتوا يواجهون صعوبة فى العثور على فرصة عمل فى بلادهم، خاصة مع تدفق العمالة الرخيصة من رومانيا وبلغاريا والمجر الذين نزحوا بأعداد غفيرة هرباً من الفقر وتدنى الأجور إلى بلدان غرب أوروبا الصناعية مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، مما دفع مواطنى هذه البلدان للهجرة خارج القارة الأوروبية التى أنهكتها الأزمات الاقتصادية والمشاكل الحدودية وكذلك التنافس الأمريكى الروسى على مساحات التأثير والنفوذ بالقارة.
هذا علاوة على العبء الثقيل للحرب السورية والأوكرانية والليبية القريبة جغرافيًا جدًا من حدود الاتحاد الأوروبى والتى أثرت بشكل حاد على سياسات أمنه ودفاعاته العسكرية وكذا اقتصاده المنهك والمتضرر من ضغوط واشنطن لفرض عقوبات على روسيا.
ولا يختلف حال البلدان الأوروبية عن ألمانيا كثيرًا، ففى منعطف طرق، تقف جنوب أوروبا، وخاصة إيطاليا واليونان فى وجه موجة رهيبة من الهجرة غير الشرعية للنازحين من مناطق الحرب بجنوب البحر المتوسط والساحل الأفريقى مثل تشاد ودارفور والنيجر، ولاسيما ليبيا عبوراً سواحلها غير الآمنة، ومَن ينسى العصر الذهبى الإيطالى قبل التسعينات عندما جسدت حلم الهجرة الوردى لأغلب المصريين حينها، ومع اشتداد الوضع تأزماً بالجنوب الأوروبى وتباطؤ النمو الاقتصادى بشرق القارة، ولِدت فرصة تاريخية أمام الجناح اليمينى المتطرف ببريطانيا لترويج خطة إخراجها من الاتحاد الأوروبى فيما يسمى بـ "البريكست" كبديل وحيد لإبعاد بريطانيا عن تلك القارة العجوز والذى تذرع بالمادة رقم 50 من ميثاق الاتحاد.
وعلى الرغم من انشقاق البريطانيين فى الشارع أمام تلك الخطوة والذى تجلى بوضوح فى استفتاء يونيو 2016، إلا أنها لا تعد الأولى بتاريخ بريطانيا ولكنها الأكثر خطورة الآن، لأنها قد تتسبب فى اسقاط الاتحاد برمته مع إضعاف مجموعة الترويكا التى شيدته من رحم الحرب العالمية الثانية، والجدير بالذكر أن بريطانيا أدارت ظهرها للقارة العجوز المليئة بالمشاكل والأزمات مسبقاً بالقرن التاسع عشر عشية الحروب النابليونية وحروب الوحدة الألمانية والإيطالية.
أزمات فى الداخل الأوروبى وعلى الحدود شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا، ومنافسة أكثر ضراوة فى العالم الجديد لنيل مكان محترم بمجتمعاته المنفتحة مع إضافة طبعًا المعايير الجديدة التى اتخذها الرئيس ترامب فى ملف الهجرة لأمريكا وتحديات جديدة طرأت على إندماج العرب والمسلمين فى بيئة غربية زاد تحفظها بعد الحرب على الإرهاب، هكذا يمكن طرح تصور أقرب لفهم عودة عدداً من الشباب المصرى الذى نال درجات جامعية بالخارج إلى وطنه بحثاً عن فرصة عمل فيه، ولا يمكننى ختم المقالة بدون طرح رأى الشخصى الذى يتلخص فى (شهادة من جامعة أجنبية أو وطنية.. فى النهاية أنت مَن يصنع الفرق).